جمعة الغضب 28 يناير 2011
كانت ليلة 28 يناير قاسية بقدر ثقل الأمل الذي تحمله. بالكاد نام أحدنا، بل بات البعض بالشارع، وفي الصباح تجمع الشباب في بيتي فتركوا سياراتهم ثم انطلقنا بسيارتين، كل مجموعة إلى وجهتها.
ذهبت أنا وإسلام لطفي إلى المعادي لنؤكد الترتيبات مع د. محمد وليد، ومنها إلى التبين حيث قابلنا أحد مسؤولي الإخوان بمنطقة الصف في محاولة أخيرة لإقناعهم بالمشاركة بأي عدد في مظاهرة المعادي، لكن للأسف قال إنهم مضطرون للالتزام بقرار المكتب والتظاهر في مركز الصف، خاصة أن هناك مناسبة اجتماعية سيشاركون فيها جميعاً.
حاولنا استغلال الدقائق المتبقية قبل قطع الاتصالات للاتصال بكل من نعرفهم من الشباب القريبين من المعادي ونطلب منهم الصلاة بشارع أحمد زكي لتعزيز المظاهرة التي ستنطلق من هناك.
أثناء ذهابنا كانت الشوارع قفراً من أي وجود أمني، وفي طريق عودتنا كانت قوات الأمن قد بدأت انتشارها بكثافة مرة أخرى، وانقطعت الاتصالات قرابة العاشرة والنصف، فأوصلت إسلام إلى مكتب سامح البرقي ليلحقا بمجموعتنا وشباب الحركات السياسية في مظاهرة إمبابة.
مررت بالقصاص وقمنا بجولة سريعة لتفقد نقاط التمركز الأمني التي ستواجهنا في خط سيرنا، ثم اتجهنا نحو الطالبية. وفي الطريق التقينا بمجموعات كثيرة من شباب نعرف بعضهم كانوا يتجمعون في مناطق نصر الدين والهرم والعمرانية، فأخبرناهم بخط سير مظاهرة الطالبية واتفقنا معهم على أن يخرجوا بمظاهرات من المساجد التي سيصلوّن فيها وينضموا للمظاهرة.
أول الغيث .. ثورة على المنبر
وصلنا إلى الطالبية، وتوزّعنا على عدة مساجد، كانت وجوه الناس وملامحهم مختلفة.. كأن الجميع يعرف.. كأن الجميع ينتظر. ظهرت ملامح اليوم باكراً.. حاول علي خفاجي منع خطيب المسجد المعروف بتبعيته لأمن الدولة من صعود المنبر، وقطع شبابٌ الخطبة وأنزلوا الخطيب من على المنبر حين تكلم عن وجوب طاعة أولي الأمر.. وتلك ثورة أخرى!!
تدحرجت كرة الثلج، وأخرجت أحياء وشوارع مصر أبناءها الذين أثقلهم الهمّ وأنهكهم الظلم والفساد، وخطّ التاريخ صفحة مشرقة من تاريخ النضال الوطني المصري كانت في نظر الكثيرين ضرباً من خيال ووهماً في عقول الحالمين.
ظلت الشرطة تتقهقر أمام زحف الثوار، حتى بداية كوبري قصر النيل، وهناك زادت كثافة القنابل.. فلجأنا لمدخل حديقة الأندلس على يسار الكوبري، لكن سرعان ما تركز إطلاق القنابل على الحديقة
في دفاتري دونت الكثير من التفاصيل لملاحم بطولة نادرة سجلها آلاف المصريين، آمل أن أستطيع نشرها بتفاصيلها وأسماء وأوصاف من عرفته منهم يوماً ما، لكني سأكتفي هنا بالقدر الذي يسمح به السياق.
وصلنا إلى ميدان الجيزة وسط سيل من البشر لا يرى آخره من أوله، ولم يعد هناك سبيل لسيطرة ولا توجيه، حتى إنني فقدت القصاص، وبعد اشتباكات عنيفة لقرابة الساعتين، وأمام مسجد الاستقامة سمعت ضابط الأمن المركزي يأمر قواته بالتوقف عن الضرب، ويقول: "اسكندرية سلّمت.. عدوا" فاندفع الشباب فرحين باتجاه شارع مراد، الذي كان عندنا تخوف من السير فيه لوجود نقاط أمنية كثيفة (عند السفارة الإسرائيلية – جامعة القاهرة – مديرية أمن الجيزة).
كان بجواري أحمد الشوربجي، فأخبرته أنني سأحاول استطلاع الوضع الأمني وأن يكون هو في مقدمة المظاهرة لأستطيع التواصل معه، وجريت نحو كوبري الجامعة وحاولت إقناع الضابط المسؤول أن هدفنا ليس السفارة وأننا متجهون للتحرير، فطلب أن نذهب من شارع الجامعة، فقلت له إن عشرات الآلاف في طريقهم إلى هنا وليس لهم قائد ولن يستمعوا لأحد، ومن مصلحته تحاشي الاشتباك معهم حتى لا يستهدفوا السفارة التي يتولّى حمايتها، فقال لن تستطيعوا عبور مديرية أمن الجيزة، كانت المظاهرة قد قطعت شوطاً من الشارع وصدمته ضخامة الأعداد، فنصحته أن يخاطب مسؤوليه ويطلب منهم إفساح الطريق لأننا سنمر بأي ثمن وقد خرجنا للتوّ منتصرين من معركة عنيفة بميدان الجيزة، والاشتباك سيدفع المتظاهرين لاقتحام المديرية نفسها!
حين اقترب المتظاهرون من منطقة السفارة، هتف البعض ضد إسرائيل وحاولوا الهجوم على السفارة، فصنعت حاجزاً مع مجموعة من الشباب، وشجعنا المتظاهرين على مواصلة طريقهم للتحرير، كنا نقول لهم: "خلّونا ننظف بلدنا من اللي سارقينها الأول".
وحين وصلنا إلى ميدان الجلاء رأينا آثار معارك طاحنة وسيارات للأمن المركزي محترقة، وقد اجتازت مظاهرات إمبابة والمهندسين كوبري الجلاء باتجاه الأوبرا.
دخول الميدان
ظلت الشرطة تتقهقر أمام زحف الثوار، حتى بداية كوبري قصر النيل، وهناك زادت كثافة القنابل.. فلجأنا لمدخل حديقة الأندلس على يسار الكوبري، لكن سرعان ما تركز إطلاق القنابل على الحديقة.
أثناء الاشتباكات عند مدخل كوبري قصر النيل رأيت كتيبة للجيش كانت متمركزة خلف نادي القاهرة، قد حمّلوا أسلحتهم وعتادهم فوق المدرعات والسيارات ويغادرون.. لبرهة توقفت الشرطة عن الضرب، وتهلل البعض ظناً أن الجيش قد تحرك لإيقاف عنف الشرطة! لكن تبين أن الشرطة فقط أفسحت لهم الطريق ليخلوا موقعهم، ثم عادت للضرب مرة أخرى.
بعد جولات من الكر والفر، وصلت إلى ميدان التحرير لأول مرة ضمن مجموعة من الشباب كنا نحتمي بأكشاك المرور ندفعها أمامنا، وحين جاوزنا بوابات الجامعة العربية، فوجئت بضباط الشرطة يتقدمون بأنفسهم ويصوبون مسدساتهم نحونا وجنود الأمن المركزي يتراجعون خلفهم، فأصيب عدد من الشباب بجواري، وحصرتنا قوة أمنية أخرى جاءت من اتجاه المتحف، فحملت مع شاب آخر أحد المصابين إلى الكورنيش عبوراً بمنطقة أعمال بالفندق المتاخم للجامعة العربية، وأخذه مجموعة من الشباب للبحث عن مستشفى، في حين انشغلت أنا ومجموعة أخرى بسيارات للأمن المركزي كانت تنطلق بجنون وصدمت إحداها سيارة تحمل أسرة بأطفالها، الذين نجوا من الموت بأعجوبة بعد تحطم جانب سيارتهم.
رحت أدور حول الميدان محاولاً إيجاد مكان للدخول، وفي طريقي كانت مجموعة من الناس يحطمون بوابات المقر الرئيسي للحزب الوطني ويحاولون اقتحامه، وحين بلغت شارع رمسيس التقيت بمظاهرات كانت قادمة من مدينة نصر ومصر الجديدة وسمعت بعضاً مما واجهوه، ثم وصلت إلى شارع شامبليون وهناك شاهدت في أحد المحلات بيان الحاكم العسكري بفرض حظر التجول وتكليف الجيش بالنزول للشوارع لمساعدة الشرطة في ضبط الأمن.
بدت الحيرة على رواد المحل عند سماع قرار نزول الجيش، البعض صاح فرحاً ثم وقف يسأل جاره: هو الجيش هيقف معانا؟ وآخر يقول (الجيش ده بتاعنا وإخواتنا أكيد مش هيضربونا زي الداخلية)، ورد عليه رفيقه (حتى لو الجيش فكر أنه يضرب مش هيقدر يواجه الناس دي كلها).
لكن حين وصلت إلى الميدان كان هناك حال آخر، فحين دخلت أول مدرعة للشرطة العسكرية الميدان أفسح الشباب لها الطريق ولم تكن لديهم مشكلة معها بل فرحوا بها، لكن حين زاد عنف الشرطة بعدها قال كثيرون إن سيارة الجيش هي التي زودت الداخلية بالذخيرة، فحين جاءت سيارة أخرى للجيش تريد العبور أوقفها المتظاهرون وأحرقوها!
قرابة الثامنة مساء، رأيت رتلاً عسكرياً محمّلاً بالدبابات والمجنزرات تتقدمه سيارتا جيب على نزلة كوبري 6 أكتوبر القادمة من مدينة نصر باتجاه ميدان عبد المنعم رياض، وأسرع عدد من المتظاهرين ووضعوا حواجز مرورية أمامهم بشكل مفاجئ ليمنعوهم من التقدم، حتى إن الجيب توقفت فجأة فاصدمت بها السيارة التي تليها وتعطلتا.. وحين سألتهم قالوا إن الجيش يساعد الداخلية، ورفضوا مرور قوات الجيش للميدان. كنت قد التقيت (م.خ) فذهب معي للاطمئنان على من في السيارة، ورأيت ضابط الجيش منهاراً والجندي الذي يقود السيارة يبكي بشدة، حاولنا تهدئتهما، كان البعض يقول له احنا اخواتك وعمرنا ما هنؤذيك، والبعض يسأله: انت خايف من ايه؟ وحاولنا تحريك السيارة الجيب من مكانها أو مساعدتهم في إصلاحها، لكن دون فائدة؛ وكان واضحاً أن الأمر سيطول.
أخذنا طريقنا نحو الميدان، وكانت النيران قد بدأت تتصاعد من مقر الحزب الوطني، وامتدت لمنطقة خلفية بالمتحف المصري، فأسرعنا نحو نقطة إطفاء تتمركز بسور المتحف لنخبرهم، فقالوا إنهم طلبوا سيارات الإطفاء التابعة للقوات المسلحة، ثم وقفت مع بعض الشباب الذين صنعوا جداراً بشرياً لحماية المتحف من محاولة بعض من كانوا ينهبون الحزب الوطني الدخول إليه.
أخبرني (م.خ) أنه رأى سامح البرقي وبعض أصدقائنا، فالتقيناهم بشارع شامبليون، وهناك رأينا عدداً من اللصوص ينهبون ماكينات البنوك وبعض المحال، وحينها لم أتمالك نفسي وبكيت وأنا أقول لهم: لم يحدث كل هذا حتى ينهب هؤلاء البلد ويروعوا الناس.
تجاوزنا منتصف الليل، وكنت قلقاً على القصاص، لكن الشباب أصروا أن ننصرف ونعود باكراً للميدان، لأننا لا نستطيع الوصول إلى أحد ولا معرفة ما حدث لأصدقائنا ولا بيوتنا، لا توجد جوالات، والبلطجية منتشرون وهناك أخبار كثيرة عن النهب؛ عارضت الفكرة وقلت من أراد فلينصرف لكني سأبقى على الأقل حتى أطمئن على باقي الشباب.. كيف؟ لا أعرف، لكني لا أتحمل الانصراف هكذا، اتفقنا أن نأخذ جولة في الميدان وحوله ونلتقي مرة أخرى لتقييم الوضع واتخاذ قرار نلتزم به جميعاً.. كانت الحال على ما كانت عليه من الارتباك والسخونة والسوء، قمنا بالتصويت، وكان القرار بالمغادرة والتواصل على هواتف المنازل للعودة باكراً للميدان.