الأحد 30 يناير... تعهد الإخوان بعدم السعي للسيطرة على السلطة
يوم الأحد 30 يناير، الثالث للميدان، كانت اشتباكات وزارة الداخلية قد انحسرت بشكل كبير إثر محاصرة الجيش لمقر الوزارة، ما أوقف قنصهم للمواطنين، وبدأ يتشكل في التحرير واقع جديد فارض نفسه على الساحة في مصر وخارجها.
استمر النظام في محاولة التخلص من هذا الطارئ دون جدوى. وفي الوقت الذي بدأت النسخة الجديدة من نظام مبارك، ممثلة في عمر سليمان وأحمد شفيق، في العمل على تشكيل الحكومة ومحاولة الدعوة لحوار سياسي مع المعارضة المألوفة، تزايدت الأعداد في الميدان وانشغل سكانه الجدد بترتيب وتوفير احتياجات المقام الذي قد يطول، معلنين تمسكهم برحيل مبارك ونظامه.
بدأت تظهر مبادرات للنظافة والإعاشة، وتكافل الناس لتوفير احتياجاتهم من طعام وأغطية، وبدأت بعض خيام تتناثر هنا وهناك تأكيدا للاعتصام. وفي هذا اليوم اخترقت الطائرات المقاتلة المصرية حاجز الصوت فوق الميدان، واختلف الناس على علّة هذه الخطوة ومن وراءها وما إذا كانت تابعة لقرار مبارك أم للجيش، وهل هي رسالة لطرف ما أم أنها قد تطلق النار على المتظاهرين!
لكن ما كان واضحا أن من بالميدان قد تجاوزوا المخاوف ولم يعودوا يأبهون للخطر، لذا كان ردهم سريعا وتلقائيا، إذ هتف الجمع وهم يشيرون للطائرات: (الله يحنن.. حسني اتجنن) بنغمة واحدة وتناغم عجيب.
لن ننافس على أغلبية البرلمان ولا الرئاسة
في منتصف اليوم، فوجئنا بصديقنا (أ.س) يقبل علينا غاضبا وبيده بيان، قال إنه يتم توزيعه في الميدان وعليه توقيع "الإخوان المسلمون" ومحتواه مستفز جدا، قلت له لعلها لعبة يراد بها توريط الإخوان، لأن هناك اتفاقا بين القوى السياسية على عدم استخدام لافتات خاصة أو توزيع بيانات داخل الميدان للمحافظة على تلاحم الميدان تحت راية واحدة، ومن الصعب أن يخرق الإخوان هذا الاتفاق. لكن (أ.س) أخبرنا أن من يقومون بتوزيعه من الإخوان ويشرف عليهم المهندس أيمن عبد الغني رحمه الله، وأنه اختلف معه بشدة، بل إنه أخذ رزمة البيانات التي كانت بيد م. أيمن وألقاها في القمامة.
كان صدى البيان قد بدأ يصل إلينا بالفعل، فعدد من شباب الحركات السياسية ومن المتظاهرين بدأوا يتحدثون بغضب وتوجس عن الإخوان وبيانهم المريب، وراح البعض يشتموننا ويشتمون الإخوان الذين يريدون بيع الثورة ووأدها والاتفاق مع مبارك ونظامه ضد الثورة!
اجتمعنا سريعا وناقشنا مشاكل البيان التي لخصناها في عدة نقاط، هي:
- أنه مخالفة للمتفق عليه من عدم توزيع بيانات أو نشرات داخل الميدان. وأنه بتوقيع الجماعة، في حين كان الاتفاق على عدم إبراز فصيل أو كيان.
- أنه جاء بعد 5 أيام هزت فيها أرجاء البلاد هتافات المصريين "الشعب يريد إسقاط النظام"، بل إن هذا اليوم ذاته واليوم السابق عليه كان هتاف الميدان "الشعب يريد إعدام السفاح"، بعد قتل شرطة مبارك للعشرات من خيرة شباب مصر في ميدان التحرير وغيره، ثم أتى بيان الجماعة في اليوم السادس يتبنى مطالب سياسية سقفها: إلغاء حالة الطوارئ وحل مجلسي الشعب والشورى والإعلان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية من غير الحزب الوطنى لتقوم بإجراء انتخابات نزيهة، وانتقال السلطة بشكل سلمي وضرورة التحقيق مع ومحاسبة كل من أمر وحرَّض وشارك في ارتكاب جرائم القتل ضد الشعب!
- أنه، وهو الأهم، سبب أزمة وشكّ في احتمال وجود صفقة بين الإخوان والنظام.
تجولنا في الميدان وقمنا بسحب ما وصلت إليه أيدينا من نسخ قبل توزيعها، ثم اتفقنا على أن نذهب أنا و(أ.س) إلى مكتب الإرشاد.
في مكتب الإرشاد اجتمعنا مع د. محمود عزت، نائب المرشد العام، ودخلنا معه في نقاش حاد، لم أكن أتوقع حتى يومها أننا قد نتحدث يوما بهذا الشكل مع أحد "إخواننا الكبار"! لكن صدمتنا وخشيتنا مما قد تجره تحركات شبيهة حالة الثورة والشارع كانتا أكبر.
بدأ (أ.س) حديثه قائلا: "احنا بنتشتم في الميدان يا دكتور بسبب هذا البيان"، وقلت إن البيان تسبب بمشكلة كبيرة، وإن الناس على قناعة بأن هناك صفقة بين الإخوان والنظام وراء هذا البيان الذي يتجاهل ما وصل إليه الوضع، بحيث يكون سقف مطالبه إلغاء حالة الطوارئ وتشكيل حكومة تعيد الانتخابات!
وراح د. عزت يحاول تبرير الأمر، وتوضيح أن مقدمة البيان فيها تأييد وتضامن كامل مع الثورة، وأن هذه مطالبنا التي ننادي بها من قديم، وأن الجماعة فقط تعيد التأكيد عليها!!
انتهى هذا النقاش الذي كان أقرب لكونه "خناقة" إلى:
- الاتفاق على أن يصدر بيان إعلامي يتبنى بشكل واضح وصريح مطالب الميدان، ورفضنا اقتراح د. عزت توزيعه في الميدان.
- الأمر الآخر الهام الذي طرحناه في هذا الاجتماع، وتطور خلال الأيام القليلة التالية، هو ضرورة التفكير في تقديم الجماعة تطمينات سياسية تحافظ على تماسك الشارع والميادين حتى نجاح الثورة، لأن من بين المخاوف التي لمسناها خشية البعض من سعي الإخوان، في حال سقوط النظام، إلى الاستحواذ على السلطة كونهم الأكثر تنظيما واستعدادا! لم يكن لدينا اقتراح محدد يومها، لكن أصدقاءنا إسلام لطفي و(أ. م) و(م.ع) تابعوا الأمر حتى تبلور اقتراحان محددان.
وفي اليوم التالي، زار إسلام لطفي مكتب الإرشاد وقابله د. محمود عزت ود. محمود غزلان، وفاتحهما في أهمية إعلان الجماعة:
1. عدم المنافسة إلا على ثلث مقاعد البرلمان بعد نجاح الثورة.
2. عدم المنافسة في أول انتخابات رئاسية.
ودعَوا إسلام لحضور اجتماع لمكتب الإرشاد كان سينعقد بعد قليل، وأداره د. رشاد البيومي، فعرض الفكرة التي لم يبد اعتراضا صريحا عليها إلا سعد الحسيني، الذي قال إن الجماعة دفعت أثمانا كثيرة تاريخيا ولا يصح أن تضع قيودا على نفسها، ومن حقها أن تترشح وتترك للجماهير حرية الاختيار وأن القوى السياسية من حقها كذلك أن تنافس.
لكن الاقتراح لاقى قبولا من أغلب الحضور، وقالوا إنهم سيناقشون الأمر، ثم أعلنه في تصريحات إعلامية د. عصام العريان ود. محمد البلتاجي خلال الأيام اللاحقة، حتى إن لجنة الحكماء التي اجتمعت مع عمر سليمان يوم 5 فبراير أشارت إليه، ثم أعلنه بيان للجماعة بعد مجلس شورى الإخوان الذي عقد في مقر جسر السويس يوم 10 فبراير 2011.
العريان والكتاتني في التحرير
عندما وصلنا إلى المنيل، كان عدد من قيادات الجماعة المعتقلين بسجن وادي النطرون قد خرجوا بعد فتح السجون، ووصلوا إلى القاهرة، وجلس د. عصام العريان، رحمه الله، في جانب الغرفة، التي اجتمعنا فيها مع د. محمود عزت، يتابع الأخبار، وكان واضحا أنه لا يريد التدخل في النقاش الذي كان ساخنا وحادا، وينظر إلينا من حين لآخر متعجبا مما يراه.
بعد انتهاء حديثنا مع د. عزت، اقترحنا أنه قد يكون من المفيد أن ينزل بعض رموز الجماعة للتحرير، للتأكيد بحضورهم ومشاركتهم للمتظاهرين دعم الجماعة الكامل لهذه الحركة، فوافقوا أن يذهب معنا د. عصام العريان ود. محمد سعد الكتاتني.
واتصلت بـ(م.ع) وأخبرته بما دار، واتفقت معه على نقطة دخول العريان والكتاتني لترتيب استقبالهما، وأخبرني (م.ع) أن بعض الشخصيات السياسية لم يكن استقبالها في الميدان جيدا، وطلب مني محاولة تهيئة د. عصام للأمر، حتى لا يظن أن المقصود به قيادات الإخوان فقط.
ركب د. عصام معنا في سيارتي، ولحقنا د. الكتاتني بسيارته، ورحنا نشرح للعريان طبيعة وتركيبة الميدان وسكانه الجدد وصمودهم أمام عنف النظام وتمسكهم برحيله، وأن هناك حالة سائدة في هذه الأثناء ترفض تصدر أي رموز أو شخصيات عامة للمشهد أو "ركوبهم عليه".
تحركنا في شوارع القاهرة التي تشابك غزلها بعُقَدٍ متماسكة من اللجان الشعبية، وراحت كل لجنة تعطينا النصائح والتوجيهات وكلمة السر التي تساعدنا في اجتياز ما يتلوها من لجان، وبعد لأيٍّ وصلنا إلى منطقة المنيرة حيث اضطررنا لترك السيارات والمشي حتى دخلنا التحرير من شارع قصر العيني.
وعرفت لاحقا أن د. محمد البرادعي كان في الميدان، وألقى كلمة أكد فيها أهمية ما وصل إليه المصريون وأن المطلب الرئيسي هو إنهاء النظام وبدء مرحلة جديدة في مصر.
أول مليونية للثورة
أخبرني (م.ع) أنهم كانوا في اجتماع بمقر تيار التجديد الاشتراكي بشارع محمد بسيوني، مع شباب الحركات السياسية. وأنهم أجروا تقييما سريعا لحالة الشارع والميدان، كانت خلاصته أن الأعداد ربما تبقى كثيفة اليوم بالدفع الذاتي نتيجة الأحداث وتفاعل الناس معها، لكن من المتوقع أن تبدأ في الانحسار بداية من غد الاثنين، وكان التفكير في كيفية المحافظة على زخم الميدان وتفاعل الشارع معه، عن طريق تنظيم فعاليات وتحركات داعمة.
واقترح خالد السيد، من "شباب من أجل العدالة والحرية"، الدعوة لـ"مظاهرة مليونية"، وكان تعبيرا جديدا حتى على المشاركين في النقاش، وطرحت مخاوف: ماذا لو لم يأت مليون ولم تصبح مليونية؟؟! فقال: هي مليونية سواء حضر المليون أم لا، وأن تفاعل المحافظات والمدن المختلفة مع الدعوة سيعطيها زخما مؤثرا.
تم الاتفاق على:
- أن تكون المليونية يوم الثلاثاء 1 فبراير، واستغلال يوم الاثنين في الترويج لها.
- أن يتولى (م.ع) مسؤولية ترويج الدعوة ونشرها إعلاميا.
- أن يتم تنظيم عدد من المظاهرات تتحرك يومها بعد صلاة الظهر، من عدد من المساجد الكبرى باتجاه الميدان، لتحريك الشارع وتحفيز الناس على المشاركة.
- أهمية عمل منصة أو إذاعة في الميدان.
طلب (م.ع) من صديقنا أحمد زين التواصل مع قناة الجزيرة لترتيب مداخلة تلفزيونية، وبالفعل أعلن (م.ع) مساء الأحد 30 يناير أول دعوة لأول مليونية للثورة المصرية.
وفي هذه الأثناء، ذهب عبد الرحمن هريدي إلى منطقته بإمبابة، واستأجر عدة مكبرات صوت، وقام بتوصيلها وتجهيزها أمام مطعم كنتاكي، وكانت هذه أول منصة داخل الميدان. وفي هذا اليوم نشر البعض دعوة لعصيان مدني يوم الاثنين.