قانون الجرائم الإلكترونية والحيّز العام
توسعت دائرة المداولات في الأردن حول قانون الجرائم الإلكترونية لتشغل ركناً مهماً في النقاشات العامة، بين من يعارض القانون جملة وتفصيلاً، وبين من يرى فيه حماية ضرورية للمعلومات الخاصة، لا سيما مع التطور التقني وظهور وسائل جديدة للابتزاز الإلكتروني.
وعلى الرغم من توافر بنود مهمة في المسودة لاقت ترحيب رواد مواقع التواصل الاجتماعي مثل مكافحة الجرائم الاقتصادية المتعلقة بالسرقة والاحتيال، إلا أن الكثيرين شككوا بالنوايا التي يمكن استخلاصها من القانون، خاصة مع وجود كلمات فضفاضة قد تؤدي إلى "كتم" المجال العام واعتقال كل من يحاول النقد بحجة "اغتيال الشخصية" الفلانية أو تشويه المؤسسات الوطنية.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الدولة الأردنية إقناع الفئات المجتمعية بضرورة الانخراط في العمل السياسي، تأتي المقاربة الجديدة لتثير التحفظات حول النوايا الحقيقية للدعوات إلى العمل الحزبي. ولذا، وفق هذا السياق، تبرز تساؤلات مهمة حول مدى جدية الدولة في خلق حالة حزبية تقوم على بلورة خريطة برامجية من الممكن أن تحسن الواقع السياسي والاقتصادي؛ الذي يتطلب، بدوره، تشابكا مجتمعيا حقيقيا مع مؤسسات الدولة، وفتح الحيز العام أمام هذا التشابك بما يضمن تأسيس مرحلة سياسية قائمة على الانفتاح وتفهم الممارسات النقدية الضرورية لتحسين عمل المؤسسات الحكومية.
ولأن تفهم النقد يقتضي الإضاءة على أوجه القصور في عمل المؤسسات والهيئات على اختلاف مسمياتها، فإنه لا يمكن فهم التأطير العقابي للقانون الجديد، حيث تصل عقوبة الذم والقدح والتحقير واغتيال الشخصية إلى 50 ألف دينار، وهو رقم خيالي لا يملكه معظم الأردنيين.
وبنظرة فاحصة إلى باقي بنود القانون، سنجد أنه يتمحور حول فكرة التجريم المطلق لأي نشاط في الحيز العام، خاصة في ظل انعدام وجود تعريفات محددة وواضحة لهذه البنود الإشكالية، الأمر الذي يعرض حرية الرأي للمصادرة حسب ما تقتضي مصلحة السلطة التنفيذية.
ثمة من يجادل بأن الحراكات المستعجلة التي قامت بها الحكومة باتجاه تسريع إقرار القانون يرجع إلى تخوفها من فقدان السيطرة على الحيز العام
ومن ناحية أخرى، ثمة من يجادل بأن الحراكات المستعجلة التي قامت بها الحكومة باتجاه تسريع إقرار القانون ترجع إلى تخوفها من فقدان السيطرة على الحيز العام، خاصة مع كثرة "استهداف" الشخصيات العامة في الفترة الأخيرة . ولذا، وانطلاقاً من الرغبة في إثبات هرمية الدولة وقدرتها على تحديد ما مشروع وما هو مخالف، تأتي التشريعات الجديدة لتعيد التأكيد على أجواء التحريم ضمن سياق التخوف من ردود الفعل الشعبية، لا سيما المتعلقة بالاحتجاجات التي تكونت في المناطق الجنوبية، إذ تركزت ردود الأفعال حينها على ما يتأتى من موقع "تيك توك"، الأمر الذي عجل بإصدار قرار يمنع عمله داخل الأردن.
هذا النوع من التفسيرات بات مترسخاً في العقل الجمعي لدى من يدير دفة الحكم، حيث يتأكد، على أكثر من صعيد، أن مواقع التواصل الاجتماعي هي المسبب الأول للتحركات الاحتجاجية، سواء في موجتها الأولى أو الثانية؛ وهو ما أدى إلى تكاثف الظن تجاه المواقع الإلكترونية بأنها أصل الشرور، في الوقت الذي يُغفل فيه عن العوامل الموضوعية ذات السياق الاجتماعي، مثل تآكل الطبقة الوسطى نتيجة للإصلاحات الاقتصادية القاسية، أو ارتباط الموجات الاحتجاجية بعوامل الغضب المتراكمة لدى الفئات الجيلية الشبابية، أو عدم قدرة وسائل الإعلام الحكومية على توضيح رؤيتها للجمهور، خاصة مع انتشار الأفكار المؤامراتية والمعلومات المضللة في الفضاء التواصلي.
طبعاً، ثمة من يجادل بأن القانون الجديد يهدف إلى ضبط أدوات الصراع الجمعية ضمن أدوار مرسومة لا تجرح أو تهين الآخرين، بحيث لا تثير أي نوازع عدائية، خاصة لدى الفئات الأكثر ضعفاً. ورغم أحقية هذا التصور، إلا أن تسييس مضامين هذه المواد من قبل بعض المؤسسات السيادية، والتخوف من إمكانية استخدامها بشكل مفرط أو انتقائي، قد يهددان المجال العام، الذي يعاني أصلاً من ضيق بفعل الموانع الاجتماعية. والغريب حقاً هو اعتقاد العقل المؤسسي أن تكلفة إغلاق المجال العام أقل من فتحه وتداول الآراء بكل حرية، مهما كان مستواها أو نمطها، إذ كيف يمكن بعدها استمزاج آراء المواطنين حول القضايا المتعلقة بهمومهم، ومن ثم توظيفها وفق الدراسات المسحية التي تنعكس على المسار السياسي والاقتصادي.
ربما اليوم بات من الضروري توضيح مفاعيل القانون الجديد، وتأثيراته على الحياة السياسية من ناحية قدرة الأحزاب الوليدة على الاستقطاب والحشد في ظل قانون يقيد حرية التعبير، ويشكك المواطنين في جدية الدولة في إرساء مسار ديمقراطي حقيقي، أو كما يصف الباحث الدكتور مصطفى حمارنة بأنه قانون يشبه "الكومستير" ولا يمت للفعل السياسي بصلة.