ثقافة الألتراس وقناع العنصرية المبطنة
يلاحظ في مباريات كرة القدم الحديث المبالغ فيه تجاه أحد الأندية، بوصفه "الجدار" الذي تتكئ عليه الجماهير، أو "القلعة" المغروسة في قلوب المحبين. تبرز فكرة الانتماء بمعناها الواسع والأكثر حضوراً في روابط "الالتراس"، التي تمثل، بدورها، نمط وأسلوب حياة لقطاع كبير من الشباب، الذين وجدوا في فكرة الانتماء إلى الأندية الرياضية البديل المناسب للروابط الأسرية ومشاحناتها المستمرة، أو أنهم وجدوا فيها الآلية الممكنة لتفريغ طاقاتهم المكبوتة بفعل الكوابح الاجتماعية. ومع الضعف المعرفي الواضح، والفورة الجيلية، وبروز "المناطقية الثقافية" كوسيلة فرز يسهل بعدها تنميط المختلف، سيكون من الطبيعي أن تحدث التشنجات بين المنتمين إلى أندية مختلفة، ولا سيما مع غياب "هوية جامعة" تحتوي طموحاتهم، فضلاً عن رغبة هؤلاء الشباب في البحث عن أنظمة بديلة أو موازية للأنظمة الموجودة في حياتهم، بعيداً عن المتطلبات الأسرية، أو ربما هرباً من "أسئلة المصير" المعتادة في مجتمعاتنا وفق صيغة "وين تشتغل حالياً، أو وين أيامك هسا"!
تظهر ثقافة الانتماء، عادة، في المدرجات والساحات العامة، ولكن في الحالة الأردنية يختلف الأمر تماماً، حيث يكون تصنيفك بناءً على انتمائك الرياضي: الأصل، المدينة، القبيلة، اللهجة... كلها تعامل حسب تصنيفك الكروي. أو أن تحصر الرياضة، بأنواعها كافة، ضمن لونين لا ثالث لهما: الأخضر، والأزرق. حتى باقي الفرق الأخرى يجري التعامل معها بناءً على قربها من الأخضر أو الأزرق. صناعة الهوية الكروية، والهوس المرضي بالانتماء إلى شيء ما، يشعر المرء بقيمته وبأهمية وجوده. هذا الأمر دفع البعض إلى إطلاق "تعبيرات هوسية" بحجة الانتماء الرياضي، حيث وصل ببعضهم مقارنة النادي الفلاني بالأمن المائي، وبأنه من "ثوابت" الوطن، وذلك ضمن سباق محموم لإظهار هوية كروية مفترضة، أو قد تكون هذه الهوية، عند بعضهم، معياراً يقاس على أساسه مدى وطنية الأفراد، وذلك حسب تصريحات كاتبة مغمورة. وفي مخيلة البعض يُنشأ عداء مفترض مع كيان غامض، يهدف إلى تقويض الهوية الوطنية، التي "تستنزف" على أكثر من صعيد، فتغدو خسارة فريق ما بمثابة خسارة معركة وطنية!
ضمن السياق نفسه، ليس مستغرباً "الترند" السابق عن المطاعم التي تمثل الأندية، إذ يتبلور هوس الانتماء على شكل أكلات شعبية، تقسم على أكثر من سياق مكاني، وتكون طريقة الأكل (وفق المزاج المفترض: اللحم أو الدجاج)، هي التعبير الأكثر صدقية عن الانتماء الوطني، أو في حالات متطرفة تكون كمية الجميد هي المعبر الأبرز عن "الأردنة" المتخيلة. وعلى المستوى الإعلامي كذلك، لا يتوقف هوس التصنيف بين إعلامي يعبّر عن هوية "دخيلة" وأخرى "متأصلة".
وبالعودة إلى الرياضة، كان من الطبيعي أن تخرج إدارة أحد الفرق، وهي تحث الجمهور على الشراء من مطعم واحد دون غيره، وذلك للتمايز عن فرق أخرى تتنافس على ذات الآلية الدعائية، وهنا لا تتوقف الجماهير عن الأخذ والرد؛ حيث يشعر الجميع بصدقية انتمائهم عندما يأكلون من المطعم الذي حدده فريقهم. ولا تتعلق المشكلة بالدعاية وحدها، بل بتلك الدلالات التي تحملها، وما تجره من حساسيات تنخر المجتمع بكامله، خصوصاً مع التحرج الرسمي من معالجة هذه النعرات، والعجز عن سنّ قوانين تمنع أي أحد، مهما علا شأنه، من التجاوز بحق الآخرين.
تكمن "لعبة" الدلالات في التعبير الانتقائي تجاه المناسبات الرياضية، ما يحيل إلى معانٍ مختلفة. إنها "عنصرية متخفية"، يصعب تفنيدها والاعتراض عليها، لأنها الأصعب والأسوأ على الإطلاق؛ حيث تخرج المتحدث من دائرة الاتهام وتجعله في حل من التوضيح والمساءلة، خاصة إذا علمنا مدى "التلاعب اللغوي" الذي يحصل، ولا سيما بالتوصيف "الوطني" لأحد الفرق دون غيره، وبالتالي، إن "الثقافة الشعبية" تحيل على ذلك المعنى المتصور: نادٍ يمثل الوطن في مقابل آخر يمثل مصالح مشبوهة. وهذه الإحالة تجعل من التعالي تجاه العنصرية المبطنة أمراً مستحيلاً، وخصوصاً مع سيطرة الإعلام الشعبي على منصات التواصل، أو في أحيان كثيرة، تكون هذه الإحالة حاجزاً يمنع عن الآخرين الشعور بهويتهم الأردنية، إذ تنعدم فرصة التعريف بوجودهم، وتنحصر ضمن أطر إقليمية. إن "ثقافة الألتراس"، وما تحمله من عنصرية مبطنة لا تسمم الأجواء الرياضية فحسب، بل إنها تزيد من النعرات بين الشرائح المجتمعية، وتساهم في تفتيت "الهوية الجامعة" المنشودة.