الأردن.. عندما تدار السياسة بالحساسيات
لم تكن مقابلة الكاتب الصحافي عمر كلاب في برنامج "نبض البلد" إلا تأكيداً على فكرة كتبت عنها سابقاً بكثرة، وحذرت من التساهل في تنميطها ضمن الحيّز العام، ألا وهي الحساسية المفرطة من أيّ موقف أو فكرة أو تصريح يمكن أن يُفهم على نحو خاطئ. هذا التخوّف باتت تُفرد له مساحات واسعة في التأطيرات الإعلامية، بل وتُدار في سبيله دورات "توعية" تحدّد ما هو الصح وما هو الخطأ. وهنا نحن لا نقصد بالتأكيد التحريض على العنف، أو إيذاء أشخاص بناء على مظهرهم الجسدي أو أصولهم وخلفياتهم الدينية، إنّما المقصود هو "المراعاة" الزائدة و"التحسّس" عند أيّ كلام يُوّجه للجماعات البنيوية في المجتمع الأردني، وعدم نقدها بأيّ شكل من الأشكال، حتى لو على سبيل التوعية بخطورة بعض الممارسات لديها.
ضمن هذا الإطار، يمكن فهم تزامن الحملة التي شنّت على الصحافي عمر كلاب بالتأكيد على عدم شرعية "استهداف العشائر"، خاصة من قبل من يسمون أنفسهم "رجالات دولة" سابقين، حيث يتم التركيز على "إيجابية" البنى العشائرية ودورها في ترسيخ بناء الدولة الأردنية!
وعلى هذا الأساس، فإنّه من المستغرب حقاً أن يكون الكلام حول فكرة ما يستدعي ردود أفعال بناء على الانتماءات القبلية الضيّقة؛ بمعنى استسهال إثارة الناس بناء على خطابات غرائزية. وحتى لو كان المتحدّث قاصداً بالاسم عشيرة محدّدة، فإن ذلك يندرج تحت بند حرية التعبير، ولا يستدعي أيّ رد فعل متشنّج يمكن أن يعكس تصرفاً متهوّراً باسم الحفاظ على سمعة العشيرة!
"الورطة" الكبيرة التي أسّست لها الدولة تمثلت في إمكانية سجن من يدافعون عنها بحجة القانون الجديد؛ الذي، للمفارقة، سيحوّل الأردن (إن استمر التعنّت الحكومي) إلى ما يشبه الدائرة المغلقة. أما بخصوص الأحجية الرسمية التي تؤكد صون الفضاء العام، فإنّ القانون الحالي سيعطي انعكاساً خطيراً يتمثل في زيادة تقديم الشكاوى بسبب وبلا سبب (كما حصل مع الإعلامي عمر كلاب)، خاصة مع تزايد الفهم الخاطئ لمضامين القانون، ووجود كلمات فضفاضة يمكن استعمالها في أيّ وقت، ومن دون تحديد واضح لأركان الجريمة المرتكبة، إذ يكفي فقط أن تُثار حساسية المتلقي، سواء أكان من طرف الحكومة أم من الشعب.
المبالغة في مراعاة البنى الجمعية (عشائر، قيم ماضوية، منظومات أحادية متزمتة.. الخ) قد تستجلب "مزايدة" من كلّ الأطراف
ولا تتوقف الحساسية على ما يُثار في وسائل الإعلام، بل تشمل (وفق قانون الجرائم الإلكترونية) أيّ موظف يتعرّض للتشهير، حتى لو كان على مستوى النقد، فإنّ ذلك قد يعطي الحق بسجن أيّ شخص يحاول انتقاد موظف عام! وهنا، ووفق هذه المعطيات المبكرة، يجب إدراك خطورة القانون الجديد، من حيث أنّه يرسخ حالة طمأنينة للموظف العام، فلا يشعر بعدها بأيّ رقابة مجتمعية أو رسمية، وهو ما سيُعطي ثقة مفرطة لعمال القطاع العام في انتهاك حقوق المواطنين، خاصة لدى الجهات التي تُحرّم مساءلتها إعلامياً وشعبياً، وهو ما قد يؤدي إلى جمودية المؤسسات وعدم تطويرها بفعل غياب النقد.
وإذا كان التحوّط ضرورياً من قبل الجهات الرسمية بخصوص "الحذر" من دور وسائل التواصل الجديدة في التأثير السلبي على "وعي المواطنين"، فإنّ الأجدر هو فتح المجال العام أمام النقاشات كافة، مهما أثارت من حساسيات مفترضة، وذلك لتأطير جماعات سياسية تُبلور مبدأ الصراع الاجتماعي وفق أسس تغييرية هدفها الصالح العام، بدلاً من التركيز على ضبط الفضاء التواصلي؛ الذي، بالمناسبة، كانت الإجراءات الأخيرة سبباً في زيادة متابعة رواد "البث المباشر" بحثاً عن صوت مختلف لا يتحدّد بقانون الجرائم الإلكترونية.
اليوم بات من الضروري عدم الاحتراز عند أيّ نقد يُوّجه، لأنّ المبالغة في مراعاة البنى الجمعية (عشائر، قيم ماضوية، منظومات أحادية متزمتة... الخ) قد تستجلب "مزايدة" من كلّ الأطراف؛ فتنبري وقتها الجماعات والأفراد لممارسة المزاودة على بعضها بما يخصّ القيم والأخلاق والخصوصيات المناطقية. وفي هذه الحال لا يمكن الحديث عن دولة تتطلع للتحديث السياسي، وفي الوقت نفسه، "تتحسّس" من أيّ فعل على مواقع التواصل، من باب عدم جرح مشاعر الآخرين! وحتى لو كانت الإجراءات تتم بحجة تهيئة السياق الاجتماعي للإصلاحات المتعلّقة بالحريات الفردية وتعزيز دور المرأة في المجال العام، أو بحجة محاصرة الصحافة الصفراء ذات البعد الطبقي الحاقد، إلا أنّ المبالغة في ترسيخ حالة التخويف من خلال القوانين المتلاحقة قد تنعكس سلباً على مدى الالتزام بها، لا سيما مع وجود بدائل يمكنها تقديم خطاب بديل. والحل برأيي يكمن في تقوية الخطاب الإعلامي عبر تشابكه الجريء مع القضايا الاجتماعية، مهما كانت تبدو حسّاسة أو مثيرة لردود الفعل، لأنّ الدول القوية لا يجب أن تهتم كثيراً للحساسيات المصطنعة.