في مجانية القيم... "تعالوا نحب بعض، ما نحبش بعض ليه؟"
تتضمّن أغنية "تعالوا نحب بعض، ما نحبش بعض ليه؟"، دعوةً إلى أنْ تَسود المحبّة المتبادلة بين الناس وسؤالًا، يبدو أقرب إلى الاستهجان منه إلى الاستفهام، عن سببِ عدمِ قيام الناس بذلك. لكن ينبغي أخذ مثل ذلك السؤال بجدّية، وإدراك أنَّ الممارسة العملية للقيم الأخلاقية التي نتبناها ليست بالأمر السهل دائمًا، وأنّ ثمّة، غالبًا، ثمنًا (كبيرًا) ينبغي لنا دفعه، إذا أردنا تحقيق ما نصبو إلى تحقيقه من أهدافٍ عمليةٍ وغاياتٍ مفيدة، وتطبيق ما نروم تطبيقه من قيمٍ أخلاقيةٍ وقناعاتٍ نظريةٍ.
يمكن إدراك مدى أهمية المسألة في المشاريعِ الجماعية التطوّعية التي يُحاول الناسُ الانخراطَ فيها أحيانًا. فعند الإعلان عن فكرةِ مشروعٍ ما، يمكن أن نجد مئات الأصوات المؤيّدة لفكرةِ المشروع وأهدافه العملية المهمة وقيمة النظرية والأخلاقية الإيجابية، لكن، عند البدءِ بمحاولةِ تطبيقِ الفكرة وتحويلها من مجرّدِ فكرةٍ وتصوّرٍ نظريٍّ إلى واقعٍ متجسِّدٍ ومتعيِّنٍ، ليس نادرًا أن يتساقط المتبنون للفكرة، بسببٍ أو بدونه، ويتبيّن أنّ كثيرين منهم مستعدون للتأييد النظري فقط، ولكنهم غير مستعدين أو راغبين في بذلِ أيِّ جهدٍ، أو تقديمِ أيّ تضحيةٍ، لتحقيق تلك الفكرة وممارستها.
وانطلاقًا من الظن الواهم بأنّ المُلتزم بالأخلاق والقيم خاسرٌ بالضرورة، وأنّ النجاح في الحياة العملية وتحقيق الأهداف المادية يقتضيان، بالضرورة، التخلّي عن المبادئ والقيم الأخلاقية، ليس نادرًا أن يستعذب كثيرون حالةَ الفشل ويستحبوا لأنفسهم موقع المظلوم ويتغنوا بذلك ويحوّلوا تلك الحالة إلى حالةِ مظلوميةٍ: أي حالةٍ يظنون أو يرون أنفسهم فيها أنّهم ضعفاء ومظلومون دائمًا وأنّ الآخر (الناجح أو القوي)، ظالمٌ دائمًا.
وبدلًا من الظن بأنّ ثمّة تطابقًا وتماهيًا بين المصالح العملية والقيم الأخلاقية، يمكن المُحاججة بأنّه ليس من النادر أن يرى الناس أنّهم أمام تخييرٍ من نوع "إمّا المصلحة أو المنفعة وإمّا المبادئ أو القيم الأخلاقية". ولا يواجه البشر، عادةً، مثل هذا التخيير مواجهةً جبهيةً وصريحةً، بل يسعون، غالبًا، إلى الالتفافِ على مثلِ هذا التخيير، وجمعِ المجدِ من طرفيه، أو الحدّ من الخسائر، قدر المستطاع. كما يمكن أن تنشط لديهم، في سياق مثل تلك المواجهات، حيل دفاعية تعمل على عقلنة اختيار المصلحة وتسويغ التخلّي عن المبادئ والقيم.
ليس نادرًا أن يستعذب كثيرون حالة الفشل ويستحبون لأنفسهم موقع المظلوم ويتغنون بذلك ويحوّلون تلك الحالة إلى حالةِ مظلومية
وحتى إذا تناولنا الأمر من منظارٍ أخلاقيٍّ صارم، يمكن المحاججة بأنَّ الأخلاق لا تقتضي، بالضرورة أو من حيث المبدأ، التضحية بالمصالح العملية والمنافع فعليًّا أو التخلّي عنها مبدئيًّا؛ فتحقيق تلك المصالح والمنافع خيرٌ بحدِّ ذاته. ومن هنا، لا ضير، من الناحية الأخلاقية والمبدئية، في سعي الإنسان إلى تحقيق تلك المصالح والمنافع، بل إنّ الواجب الأخلاقي يقتضي عليه السعي إلى فعل ذلك، قدر ما تسمح به الظروف والمبادئ الأساسية المُوجِّهة لسلوكه.
وبالتضادِ مع ما يظنّه كثيرون، فإنّ معظم المواقف الحياتية التي يُواجهها الإنسان يوميًّا، وفي مسارِ حياته الطويل، لا يمكن اختزالها إلى تخييرٍ بين المصلحة أو المنفعة المادية والمبادئ والقيم الأخلاقية، ولا بين الخير والشر المطلقين. وإنّما تكون المفاضلة بين خيراتٍ نسبيةٍ و/ أو شرورٍ نسبيةٍ، وعلى المرء أو المرأة اختيار أعظم الخيرين أو أهون الشرّين. فالمشكلة العملية، والإشكالية النظرية، للعلاقة بين المصلحة والقيمة، بين الخير والشر، تتخذان، غالبًا، صيغةَ الصراع بين الواجبات والمفاضلة بين القيم. ففي كلِّ ما نفعله، أو يمكن أن نفعله خيرٌ بالضرورة، لكن تحقيق ذلك الخير قد يكون على حساب خيراتٍ أكبر وأهم وأولى. والأخلاق هي ذلك الترتيب التراتبي أو التفاضلي للقيم والمبادئ الأخلاقية، وتلك الممارسة المستندة إلى ذلك الترتيب.
كانَ بإمكان سقراط أن يهرب قبل تنفيذِ حكم الإعدام الصادر بحقّه، لكنه رفض القيام بذلك، لأنّه فضَّل "الخضوع للقانون وهو خاطئ وظالم، حتى يستمر الخضوع له وهو محق وعادلٌ". أشاد كثيرون بتضحيةِ سقراط بنفسه، في سبيل تعزيز احترام القانون وتطبيقه، ورأى آخرون، كثر أيضًا، أنّه كان ينبغي له الهرب، لأنّ إنقاذ نفسه كان أكثر أهمية وضرورة وأولويةً، حتى من المنظورِ الأخلاقي، من الخضوعِ لسلطةٍ جاهلةٍ جائرةٍ. في حين شكّك آخرون في وجودِ التضحية المزعومة التي يُظنّ أنّها موجودة في الفعل السقراطي، والمتمثّلة في التضحية بالحياة من أجل إعلاء كلمة القانون وسلطته واحترامه. وينطلق التشكيك من التذكير بأنّ سقراط كان يؤمن بوجود حياةٍ أخرى بعد الموت، وبأنّه إنّما كان يودُّ التخلّص من تلك الحياة البشرية الفانية، لينعمَ بنعيمٍ وجنان أو جنّات الحياة الأبدية التالية. ومن هذا المنظور، لا يبدو أنّ سقراط قد قدّم أي تضحية مادية أو أخلاقية.