(تيار) سورية الجديدة: لا حرب أهلية، لكن...!

25 ديسمبر 2024
+ الخط -

اعتقد كثيرون، حديثًا وقديمًا، أن إسقاط (نظام) الأسد سيترافق مع حرب أهليةٍ و/ أو طائفيةٍ. ومع بدء عملية ردع العدوان، وتقهقر النظام الأسدي، رأى كثيرون أن الحرب المذكورة آتيةٌ، لا ريب في ذلك، وقدموا رؤيتهم في صيغة تبشيرٍ بكوارث يستحقها المشاركون في الحراك العسكري المسلح ضد النظام، والمؤيدون له أو المستبشرون به والمعتقدون بإمكانية تحقيقه نتائج إيجابية، قد تصل إلى إسقاط النظام الأسدي ذاته. وعلى الرغم من أن معظم العناصر المطلوبة لحصول حرب أهليةٍ/ طائفيةٍ – فراغٌ في السلطة وغيابٌ أو تغييبٌ لمؤسسات الدولة ومؤسسات إنفاذ القانون، تاريخٌ طويلٌ وحاضرٌ معقدٌ من التوترات والاحتقانات الإثنية والطائفية والدينية والاجتماعية والمناطقيةٌ، أوضاعٌ اقتصاديةٌ مزرية، انقلابٌ سريعٌ ومفاجئٌ في موازين القوى ... إلخ –   كانت متوفرة في الوضع السوري الأسابيع الثلاثة أو الأربعة الماضية، لم تحصل تلك الحرب، وكانت الاعتداءات وحالات انفلات الأمن التي حصلت ضئيلةً جدًّا عمومًا، وأقل بكثير من المنتظر أو حتى المتوقع في مثل تلك الظروف. فلم تحصل أي اشتباكاتٌ جماعاتيةٌ بين الأهالي، رغم المخاوف والتوجسات الكبيرة في هذا الخصوص.

مع أخذ ما سبق في الحسبان، ينبغي عدم الاستهانة بالنتائج الكارثية المهولة لحكمٍ أسديٍّ كان لاستبداده أبعادٌ طائفيةٌ وإثنيةٌ ومناطقيةٌ واقتصادية واجتماعية فظيعةٌ وهائلةٌ. ومن المأمول أن يتجاوز وعي النخب السورية الأبعاد المذكورة والانقسامات المرتبطة بها أو الناتجة عنها، على طريق تأسيس وعيٍّ إنسانيٍّ أخلاقيٍّ بالدرجة الأولى، ووطنيٍّ عابرٍ للهويات الفرعية والانتماءات الهوياتية الضيقة، بالدرجة الثانية، بعيدًا عن تسييس هذه الهويات وتلك الانتماءات، بطريقةٍ تجعلها قاتلة، رمزيًّا على الأقل، ليس للهويات الأخرى فحسب، بل لذاتها ولما تتضمنه من تنوعٍ أيضًا. لكن، ما كل ما تأمله المرأة تدركه، فقد تهرول نسمات النخبة السورية بما لا تشتهيه القوارب.

منذ يومين، كتب أحد الأصدقاء على صفحته الفيسبوكية ما يلي: "كنت في مساكن الحرس الجمهوري بين قدسيا ومشروع دمر بمدينة دمشق قبل قليل، استوقفني أحد السكان (من الساحل)، لأوصله على طريقي وعادتي أن لا أرد من يطلب مني ذلك منذ 25 عاما، قلت لهذا الشخص من واجبي أن أعيش معك وأحترم حقوقك، ومن حقي أن لا أحبك ولا أساعدك، أعتذر منك". وفي معرض دفاعه عن "فعلته"، بعد مواجهته لبعض الاعتراضات المستغربة والمستهجنة، ميز الكاتب بين التعاقد الوطني الملزم للجميع والتعاطف الوطني غير الملزم لأحد، ورأى أنه غير ملزم بذلك التعاطف، وأعلن انتهاء "حقبة المجاملات الوطنية"، التي "دفعنا كلفتها الكثير". وشدد على أنه من حقه وحق غيره أن يشعر ما يشعر هو به، ويعبر عنه قولًا وفعلًا، بالطريقة التي عبر هو نفسه عنها. وانطلاقًا من تنظيره لذلك الحق، وتسويغه له أو دفاعه عنه، بدا أنه حقٌّ ينبغي لنا جميعًا الاستمتاع به وبتنفيذه، وواجبٌ ينبغي لنا الالتزام به لأن "الجرح كبير والبعض يتكلم معنا بورع وطني بارد".

انتابتني مشاعر كثيرة عند قراءتي لمثل هذا الكلام. ولوهلةٍ أولى، رأيت في المنشور مجرد نتيجةٍ للحكم الأسدي، لكنني تراجعت سريعًا لأنني أدركت أن مثل هذا التفسير يختزل الشخص المذكور في كونه مجرد موضوع وضحية للنظام الاستبدادي، وينفي بذلك كونه ذاتًا واعية ومسؤولة عما تقوله وتفعله. ومما عزز اعتقادي بوجوب التعامل معه بوصفه ذاتً ومسؤولًا، وليس مجرد موضوعٍ وضحيةٍ، هو أن الشخص المذكور مسؤول بارزٌ في أحد الأحزاب السياسية المؤسسة حديثًا، وهذا يعني إمكانية ووجوب أخذ أقواله وأفعاله بمنتهى الجدية. وسأقتصر في ما يلي على مناقشة بعض أبعاد مضمون منشوره وما يحتويه أو يحيل عليه من أقواله وأفعاله.

المسألة الأولى التي ينبغي إبرازها والتشديد عليها هي وجوب التمييز أو إدراك التمايز الموجود بين أن يكون "من حقنا" فعل أو عدم فعل أو قول شيءٍ ما، من جهةٍ، وأن نكون على حق في قيامنا أو عدم قيامنا بهذا الفعل أو القول. فأن يكون أمرٌ ما من حقنا لا يعني أنه معنا حق في فعلنا لها. فالحق الأول قانوني والثاني أخلاقي. والحق القانوني ليس واجبًا (بالضرورة). فمن حق الإنسان ألا يقول صباح الخير لجاره، لكن فعله لذلك قد يكون أمرًا غير محقٍّ من الناحية الأخلاقية. وينبغي أن نتوقع وننتظر من النخب (السياسية) السورية أن تلتزم لا بمجرد الحق القانوني، وهو الحد الأدنى، بل بالحق الأخلاقي أيضًا. ويبدو أن الشخص المذكور لديه سقف منخفضٌ جدًّا حيث يرى أنه واجبه، في هذا السياق، يقتصر على القيام بما هو واجب عليه وفقًا لما أسماه ﺑ"التعاقد الوطني الملزم"، أما التعاطف الوطني، وهو مجتمعي وثقافي، فهو غير ملزمٌ له، ويمكن له تجاهله وعدم ممارسته. ما لم يدركه هذا الشخص أنه حتى في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية والتي يتقاطع فيها القانون والأخلاق، تشكل مخالفة الأخلاق العامة المعيارية في مجتمعٍ ما فضيحة يصعب على أكبر السياسيين مقاومة تأثيراتها السلبية، فيضطر كثيرون للاعتذار والاستقالة، رغم أن ما فعلوه هو من حقهم، من المنظور القانوني، لكنه ليس من حقهم، بوصفهم شخصيات عامةً، ينبغي لها أن تتصرف، بطريقةٍ نموذجيةٍ قدر المستطاع، بحيث تراعي لا "التعاقد الوطني الملزم"، فحسب، بل "التعاطف الوطني، المجتمعي والثقافي"، أيضًا.

المسألة الثانية مرتبطة بالمسألة الأولى، وكانت أول ما خطر لي، عند قراءتي للمنشور المذكور. يمكن لي أن أفهم وأن أتفهم عدم سيطرتنا على مشاعرنا ووجود مشاعر غير مناسبة لدينا. كأن نشعر بالنفور من شخصٍ طرفٍ ما، من دون أن يكون شعورنا مسوَّغًا أو منصفًا. ويمكن لي أن أفهم جزئيًّا تصرفنا على أساس المشاعر المذكورة، بطريقةٍ ضمنيةٍ ومستترةٍ، لكن ما لم أستطع تفهمه، وحتى فهمه، عند قراءتي للمنشور المذكور هو ألا يرى الشخص مشكلةً في إعلانه على الملأ ما فعله مع الشخص "العلوي/ من الساحل"، وما قاله له، لمجرد أنه "علوي". هذه الجرأة في الإعلان هي أكثر ما استفزني، لأنها تعني أن المعايير الأخلاقية العامة الناظمة للمجال العام عمومًا، ولا سيما لسلوك الشخصيات العامة والنخبة السياسية في هذا المجال وفي خصوص مثل هذه المسائل يمكن أن تنخفض أو تتدهور وتنحط إلى مثل هذا القاع السحيق، عند بعض الأشخاص. فإذا كان الشعور بالنفور من فرد ما لأنه ينتمي إلى طائفةٍ ما مصيبةً، وكان التصرف على أساس ذلك الشعور كارثةً، لا سيما عندما تقوم به شخصية عامةً تنتمي إلى نخبةٍ سياسيةٍ، فإن الإعلان عنه بطريقةٍ مضمخةٍ بروح دعوية وتفاخرية أكثر سوءًا بكثير من المصيبة والكارثة المذكورتين. وارتأيت ضرورة أن يقول شخصٌ ما لصديقي كاتب المنشور ما قاله الإعرابي للشخص الذي حاول أن يسرق حصانه بعدما حاول ذلك الإعرابي مساعدته: "لا تروِ هذه الحادثة لأحد، كي لا تنقطع المروءة عند العرب ولا ينقطع الخير بين الناس". ولم أفهم عن ماذا يعتذر كاتب المنشور في نهاية منشوره، إذا كان يعتقد أنه محق في فعل ما فعله وقول ما قاله، ولم يخطئ مطلقًا في ذلك!

لكن هل ثمة ما يخالف المروءة في ما قاله وفعله الشخص المذكور؟ ثمة عشرات التعريفات للمروءة، ومن وجهة نظري ليس من بينها ما يمكن أن يستوعب أو يتقبل أو حتى يقبل ما قاله وفعله الشخص المذكور. فليس من المروءة الامتناع عن مساعدة شخصٍ ما، من دون مسوِّغٍ كافٍ. وليس من المروءة التعامل السلبي مع شخصٍ ما انطلاقًا من نسبٍ ليس له يدٌ فيه، وليس من المروءة نشر الكراهية تجاه طائفةٍ ما، وتبرير عدم التعاطف معها، والتفاعل السلبي مع كل فردٍ من أفرادها، لمجرد أن عددًا (كبيرًا) من أفرادها متهم بارتكاب أخطاء أو خطايا أو جرائم.

ولكي يكون النقد محايثًا أو داخليًّا وليس خارجًا أو برانيًّا، يمكن إدانة ما قاله وفعله الشخص المذكور انطلاقًا من الشعارات أو المبادئ التي يتبناها الحزب الذي يشغل فيه الشخص المذكور منصب نائب الرئيس للشؤون السياسية. فذلك الحزب يعرِّف نفسه بأنه "كيان سياسي وطني محافظ يلتزم بمبادئ العدل والحرية والكرامة". وأجد أن الفعل المذكور يتنافى مع كل القيم المعلنة في التعريف المذكور: فليس من السياسة قطع العلاقة مع شريحة واسعة من الناس بهذه الطريقة المنفرة وغير المسوغة، والتي تفتقر إلى "التعاطف الوطني الأخلاقي". وليس من العدل الحكم على شخصٍ ما والتعامل معه بهذه السلبية، بناءً على نسبه. وانطلاقًا من البعد الديني المحافظ، يمكن الاستناد إلى القول "ولا تزر وازرة وزرة أخرى". وانطلاقًا من قيمة الحرية، يمكن القول إن الإنسان غير مكرهٍ على التصرف بهذه الطريقة مع الآخرين، وينبغي له أن يفترض أن الآخر حرٌّ أيضًا وليس مجرد فردٍ في قطيعٍ متماثل الأعضاء. ويمكن المحاجة بأن مثل ذلك المنشور، بما يتضمنه ويحيل عليه من أقوال وأفعالٍ، ينتمي إلى "حماقات بعض متصدّري الشأن السياسي"، التي سبق لكاتب المنشور نفسه أن أشار إلى أن تيار سورية الجديدة يحاول أن يتجنبها ويسير في اتجاهٍ مغايرٍ لها.

وإذا أخذنا المبادئ الخمسة التي يتأسس عليها ذلك التيار في الحسبان، يمكن القول إن ذلك المنشور يتناقض مع كل تلك المبادئ، جملةً وتفصيلًا: فهو ينطلق من رؤية فكرية ضيقةٍ ويتماهى مع الخطاب الأيديولوجي الذي يرفضه، ويعرقل عملية بناء التصور الوطني الحقيقي والشامل، ويخلق مشاكل زائفةً بدلًا من إيجاد حلول حقيقية لمشاكل حقيقية، ولا يراعي الظروف المرحلية في التخطيط والعمل، ولا يعمل على بناء الشرعية والأدوات اللازمة لمحاولة التأثير (المناسب) في الحل السياسي.

قد لا يكون ضروريًّا القول إن النقد موجه لقول وفعل الشخص المذكور وليس لشخصه، وله بوصفه شخصيةً عامةً وأحد أفراد "النخبة السياسية"، وليس بوصفه فردًا عاديًا وصديقًا لطيفًا وودودًا. سورية في حالة مخاضٍ الآن، وينبغي لنا جميعًا الإسهام في أن تكون سورية الجديدة مولودًا معافىً بعيدًا عن تشوهات مرحلة "سورية الأسد". ويقتضي ذلك الإسهام أن نناقش كل المسائل بأعلى درجات الود الصريح أو الصراحة الودية. وهذا ما أزعم أنني حاولت فعله، في هذه التدوينة. وأترك للآخرين الحكم على نجاحي في محاولتي المذكورة.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".