الإسلام السياسي- الأصولي والنسوية: بديهياتٌ مختلفٌ عليها
تبدو علاقة النسوية بالدين عموماً، ولا سيما الإسلام، ملتبسةً وإشكاليةً ومشكلةً أيضاً. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم قول المختصّ بعلم الاجتماع الديني، الإسباني الشهير، خوسيه كازانوفا: "يبدو أن النسوية قد حلت محل الشيوعية بوصفها "الشبح" الذي يلاحق جميع التقاليد الدينية". وقد يجادل بعض المتدينين في أنّ الالتباس المذكور مختلقٌ، والصراع المُشار إليه زائفٌ، والشبح النسوي المزعوم مجرّد اتجاهٍ موهومٍ وواهمٍ، في الوقت نفسه. ما لا يمكن نفيه، أو ما ينبغي عدم إنكاره، أنّ النسوية قد أصبحت فعلًا هدفًا تقليديًّا ودائمًا لهجمات أو تهجّمات معظم المشايخ والكثير من المحافظين (وأمناء الفروع) الذين لا يرون تنظيمًا مناسبًا للنساء غير "الاتحاد العام النسائي" و"رابطة الأم الحنون والبنت/ الزوجة/ الأخت الحبابة والمطيعة".
يرى الإسلام السياسي (الأصولي) أنّ مسألة المرأة والأسرة هي عموماً (إحدى) أكبر وأهم المسائل/ المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإسلامية. ومن هنا نفهم استماتة متبني ذلك الإسلام في الدفاع عن الثقافة الذكورية باسم الدين والأخلاق والعادات الأصيلة... إلخ. وبغضّ النظر عن ماهيّة الدين الفعلية أو المزعومة، المُنصفة أو المعادية للمرأة، فمّما لا شكّ فيه وتثبته دراسات كثيرةٌ، أنه، في كلّ الأصوليات الدينية، المسيحية منها (البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية) والإسلامية (السنية والشيعية)، وغيرها، توجد رؤيةٌ ذكوريةٌ أبويةٌ دونيةٌ إلى المرأة، في خصوص دورها أو مكانتها في مجالاتِ السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومن ضمن ذلك الأسرة والعلاقات بين الجنسين. ولا يمكن فصل تلك النظرة الذكورية عن الأوضاع السيئة التي تعيشها المرأة عمومًا في كثير من المجتمعات الإسلامية. ومن منظور منظومة حقوق الإنسان والتقييمات المؤسساتية الحقوقية والأممية الرسمية، بلغ سوء تلك الأوضاع ذروته في أفغانستان الطالبانية حيث صُنِّفت الأوضاع فيها بأنها الأسوأ على الإطلاق عالميًّا. فالتقييد واسع النطاق لحريات الفتيات والنساء طاول كلّ جوانب حياتهن، وشمل حرية التنقل والملبس والسلوك والوصول إلى التعليم والعمل والصحة والعدالة... إلخ. وأصبح الجحيم متجسّدًا في تلك البقعة، وليس مجرّد مكانٍ في عالمٍ آخر يتم التهديد أو الوعيد به.
في كلّ الأصوليات الدينية توجد رؤيةٌ ذكوريةٌ أبويةٌ دونيةٌ إلى المرأة، في خصوص دورها أو مكانتها في مجالاتِ السياسة والاقتصاد والاجتماع
ومع وصول ما يمكن تسميته ﺑ "الإسلام السياسي (الأصولي)" إلى السلطة في سورية، ثارت مخاوف كثيرة وكبيرة في خصوص الحريّات الاجتماعية عمومًا، ولا سيما حريّات النساء وحقوقهن. وعلى الرغم من وجود بعض الإشارات الإيجابية في هذا الخصوص، فثمّة الكثير من الإشارات السلبية، ومنها تصريحاتٌ لبعض ممثلي السلطة وتصرفاتها تعزّز المخاوف المذكورة. ومن تلك الإشارات الماضي الأسود لوزير العدل في الحكومة الانتقالية في سورية، شادي محمد الويسي (ظهر فيديو له وهو يشارك في تنفيذ عملية إعدام بسيّدتين سوريتين، بدعوى الدعارة)، والهيمنة (شبه) الكاملة للرجال على كلّ المناصب الوزارية الرسمية المهمة وفي الوفود الرسمية ... إلخ. وظهرت تلك الإشارات السلبية، أيضًا، في تصريحات بعض ممثلي السلطة أيضًا، حيث ظهر فيها، على سبيل المثال، تشكيك في أهلية المرأة للمساواة الحقوقية الكاملة في تولي بعض الوظائف (كما في تصريحات عبيدة الأرناؤوط، المتحدّث الرسمي باسم المكتب السياسي للحكومة الانتقالية السورية)، وتبنٍ لرؤية أحادية دوغمائيةٍ منغلقة ترفض فتح المجال لمن يختلف معها (كما في تصريحات عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة في الحكومة الانتقالية في سورية)، أو تسويفٍ ومغمغة وغمغمة عند السؤال عن حقوق المرأة ومكانتها وحرياتها، والقول بثانوية هذه المسائل (كما في حديث أحمد الشرع نفسه، مع قناة بي بي سي البريطانية). كان يمكن فهم هذه المواقف والتصريحات بطريقةٍ مختلفةٍ أقل توترًا وتوجّسًا، لولا التقليد الذي ينتمي إليه أصحاب هذه التصريحات ويستندون إليه: تقليد حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب. ويرى هؤلاء وأمثالهم أنّ "خلقة المرأة تقتضي أن تلزم البيت"، ﻓ "مهمتها التي هيأها الله لها هي القيام على شؤون الزوج المنزلية ورعاية الطفل". وأنّه ثمة فوارق طبيعية بين المرأة والرجل تستلزم التفريق في الحقوق الممنوحة لكلّ منهما: "فالمرأة للبيت أولًا وأخيرًا"، و"للرجل الرياسة: رياسة البيت، ورياسة الحرب والجيش وقام بها على المرأة، فذلك توجيه الفطرة وضرورات الواقع". و"الرجل قوام على المرأة ورئيس لها وطاعتها له واجب عليها"؛ والمرأة ليست بحاجةٍ إلى تعلم القانون واللغات والفنون، وينبغي رفض الكتاب "محاولة إخراج النساء من بيوتهن ليشاركن الرجال في ميادين الأعمال العامة" والمطالبات النسائية/ النسوية المضللة ﺑ "مساواة المرأة بالرجل".
من حق المرأة أن تتحجّب وتتنقب، لكن ليس من حقّها، ولا من حقّ مبتني الحجاب والنقاب فرضه على الآخرين ومنع الأخريات من عدم التحجّب
إنّ شيوع الرؤية الذكورية أو الأبوية (المذكورة)، في جميع الأصوليات، يعطي أساسًا للمحاجَّة بأن "جميع الأديان الرئيسية هي في الأساس أبويةٌ، لأنها ظهرت إلى الوجود في فتراتٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ عن عصرنا، عندما كان بقاء الإنسان يعتمد على تقسيمٍ صارمٍ بين عالم الذكور وعالم الإناث"؛ لكننا نعتقد بأهمية تجنّب الخلط أو التوحيد بين الأصولية الدينية والدين، في فهمنا، للأصولية فحسب. ففي مقابل الأصوليات الدينية، ثمّة، دائمًا، وفي كلّ الأديان، والدين الإسلامي من ضمنها بالتأكيد، تأويلاتٌ مضادةٌ للأصولية تحاجج بأنّ تلك الأديان تقول بالمساواة الأخلاقية والحقوقية بين الرجل والمرأة. وفي هذا الإطار، يمكن التذكير بتيارٍ حقوقيٍّ إسلاميٍّ يتبنى تأويلاتٍ للنصوص الدينية الإسلامية (القرآن خصوصًا أو تحديدًا) تقف على الطرف النقيض من تأويلاتٍ الأصولية. ولهذا التيار تسمياتٌ مختلفةٌ، منها: نسويةٌ إسلاميةٌ، إسلامٌ نسويٌّ، أنثويةٌ إسلاميةٌ، الحركة النسائية الإسلامية.
ثمّة بديهياتٌ أو مسلماتٌ أخلاقيةٌ (كثيرةٌ) يبدو أنّ الإسلام الأصولي (والاتجاه النسوي) يختلف مع بعضها ويخالفها، أحيانًا. ومن بين هذه البديهيات أو المسلمات أنّ وضع المرأة في العالم العربي عمومًا استثنائي في سوئه، غالبًا، سواء تمّت مقارنته بالعالم الغربي أو الشرقي، الشمالي أو الجنوبي. ومن دون تغيير مؤسساتي وجذري مدعوم من السلطات السياسية في الأوضاع القانونية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية سيكون السعي إلى إنصاف المرأة أشبه جزئيًّا بمنايا زهير بن أبي سلمى. وإنّ تحرّر المرأة من الوصاية والاستبداد الذكوري، ومساواتها المبدئية الأخلاقية الإنسانية الكاملة بالرجل أمرٌ ضروريٌّ وأساسيٌّ في تغيير الوضع المذكور، وفي تحرّر المجتمع عمومًا من كلّ أشكال الوصاية والاستبداد والتفاوت غير العادل. والعمل على إنجاز ذلك التحرّر فرض عين على كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلا. وليس ثمّة علاقة بين تلك المساواة الأخلاقية الحقوقية المبدئية بين المرأة والرجل وأيّ مساواة أو تفاوتٍ بينهما، في السمات والقدرات الجسدية العضوية أو النفسية. فالمساواة المبدئية في المواطنة وحقوقها وواجباتها مؤسَّسةٌ على المساواة الأخلاقية الإنسانية ومؤسِّسةٌ لها، في الوقت نفسه.
القضية النسوية ليست قضية نسائية، ولا يوجد امتياز حصري للنساء في هذا الخصوص
المشكلة (الأساسية) في أفكار الإسلام السياسي/الأصولي وقيمه ومواقفه، في خصوص النساء، لا تكمن في تبنيه لهذه الرؤية/ القيمة أو تلك، ولا في اتخاذه هذا الموقف أو ذاك من المسائل التي تخصّ المرأة عمومًا. فمن حيث المبدأ، من حقّ كلّ طرف تبني ما يشاء من الأفكار والقيم في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل. تلك المشكلة تكمن وتظهر في محاولة هذا الطرف أو غيره من الأطراف أن يفرض رؤيته على الآخرين، أو الأخريات خصوصًا، ويُجبرهن على تبني مضامينها وتنفيذه رغمًا عنهن. فمن حق المرأة أن تتحجّب وتتنقب، لكن ليس من حقّها، ولا من حقّ مبتني الحجاب والنقاب فرضه على الآخرين ومنع الأخريات من عدم التحجّب. ومن حق المرأة أن تختار أن تكون ربّة منزل وألا تعمل خارجه، لكن ليس من حقّها، ولا من حقّ من يرون أفضلية هذا الخيار، فرضه على الأخريات ومنع المرأة من الخروج من المنزل وتولي أيّ وظيفةٍ خارجه. ومن حقّ الشخص أن يعتقد بقدرة أو عدم قدرة المرأة على أن تقوم بهذا العمل أو ذاك، لكن ليس من حقّه ولا من حقّ غيره فرض هذه الرؤية على الأخريات والآخرين. فالمشكلة (الأساسية) ليست في مضمون الاعتقادات بحدّ ذاتها، إلا بقدر ما تكون تلك المضامين مفروضة قسرًا وقهرًا.
النسوية ليست اتجاهًا معاديًّا للرجال (بالضرورة)، ومن حيث المبدأ، ينبغي لها ألا تكون كذلك بالتأكيد. هذا ما ينبغي أن يفهمه الأصوليون المنتقصون من النساء، والمعادون للنسوية، من جهةٍ، وأنصار النسوية، من جهةٍ أخرى. والقضية النسوية ليست قضية نسائية، ولا يوجد امتياز حصري للنساء في هذا الخصوص. ومن حيث المبدأ، مسؤولية الرجل عن هذا الأمر مساوية لمسؤولية المرأة، وقد تكون أكبر بحكم موازين القوى الاجتماعية التاريخية. والعقلية أو الذهنية الذكورية ليست عقلية أو ذهنية حصرية بالرجال، بل هي عقلية اجتماعية قد تظهر عند الرجال والنساء، بنسب ودرجات متفاوتة ومختلفة تبعًا للسياق. والمرأة ليست نسويةً، بالضرورة، ولا أكثر ميلًا من الرجل، بالضرورة، لتبني قضيّة تحرّر المرأة وإنصافها. والنسوية ليست اتجاهًا (يحقُّ له أن) يقرّر ما الذي ينبغي للمرأة أن تعتقده أو تلبسه أو تفعله في علاقاتها مع ذاتها أو مع مجتمعها والآخرين، وإنما هي سعيٌ إلى أن تنال المرأة حريتها في اتخاذ القرارات التي ترى أنها مناسبة لها.
في ظلّ كثرة الخطوط الحمر والحساسيات والتابوات، يصعب العثور على نقاشاتٍ صريحة وودية، صحية وبناءة
بسبب اختلاف الخبرات الاجتماعية والنفسية، قد يصعب على الرجل الإدراك الكامل أو "الكافي" لطبيعة معاناة النساء في مجتمعاتنا، ولهذا من المفيد، بل والضروري، الاستماع إلى أصوات النساء، والإنصات إليهن، ومعرفة وجهات نظرهن. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ المرأة وحدها قادرة على التعبير (الأفضل والأنسب والأدق) عن وضعها. والشخص "الضحية" يستحق التعاطف دائمًا، بوصفه ضحية، لكن الضحية ليست ضحيةً فقط، وليست على حقّ دائمًا بالضرورة. ولا يعني هذا التعاطف الموافقة على كلّ ما يقوله الشخص "الضحية"، حتى حين يقوله بوصفه ضحية. فالتمييز بين الاتهام والإدانة أكثر من ضروري. والتوحيد بينهما أمر غير مناسب عمومًا ومن زاوية الأخلاق والعدالة ومصداقية القضايا النسوية خصوصًا. ولا يمكن، وينبغي عدم، الفصل بين السعي إلى العدالة الجندرية وإنصاف النساء من جهة، والسعي إلى العدالة في المجالات الأخرى، من جهة أخرى. وبعض عمليات الفصل ظالمة ومسيئة بأكثر من معنى. فالقيمة الأخلاقية الموجّهة للفكر والفعل، في هذا الخصوص، يجب أن تكون العدالة عمومًا وليس إنصاف المرأة فقط تحديدًا.
المواضيع التي تتمحور حول الضحايا والعدالة والأخلاق بالغة الحساسية عمومًا، ويسهل، في مثل هذه السياقات، تجريم الخطأ في الرأي، وتحريم الاختلاف، والنظر إلى كلّ خطأ على أنّه خطيئة أو ذنبٌ لا يغتفر. والوضع المثالي لحلّ الحوادث المتصلة بمثل هذه القضايا هو الحل القانوني، عندما يكون هناك نظام قانوني معقول ومناسب ومنصف من حيث المبدأ. لكن غياب هذا الإنصاف القانوني في الكثير من الأحيان، يجعل اللجوء إلى وسائل أخرى أمرًا مشروعًا وضروريًّا. من حقّ أيّ إنسان أن يطرح أيّ قضية شخصية أو غير شخصية في المجال العام، لكن هذا لا يعني أنه على حقٍّ في طرحه أو مُنصفٌ فيه وفي مضامينه، بالضرورة. ومن حقّ الآخرين أن يختلفوا معه في طرحه، حتى لو أقروا حقه المبدئي في القيام بهذا الطرح.
من الضروري مراعاة الحساسيات، في هذا السياق، لكن الحساسيات هنا ليست من لون واحد فقط. ولا تعني مراعاة الحساسيات الخضوع لها وتقبّلها أو حتى قبولها بالضرورة. وفي ظلّ كثرة الخطوط الحمر والحساسيات والتابوات، يصعب العثور على نقاشاتٍ صريحة وودية، صحية وبناءة، في هذه الخصوص، حيث يُقتصر غالبًا على شيطنة طرف وملأكة طرفٍ آخر. ومن دون مثل هذه النقاشات، ستظلّ قضية تحرّر المرأة وإنصافها قضية أيديولوجية فقيرة وضعيفة معرفيًّا.