في تسارع الحياة وطول العمر
قيل الكثير في طبيعة رغبة البشر في ألا يموتوا، أو في أن يعيشوا لأطول فترةٍ ممكنةٍ، على الأقل، وفي إيجابيات ذلك. فكلما طال عمر الإنسان كانت لديه إمكانيات أكثر وأكبر لزيادة تحصيل خيرات الحياة والتمتّع بها، فيزداد معرفةً وغنىً وتمتعًا بذلك. ويمكن لهذا التراكم الكمي التحوّل إلى تطوّرٍ كيفيٍّ أو نوعيٍّ في القدرة الإبداعية، وترك بصمةٍ مديدةٍ وخلاقةٍ في الحياة، حتى بعد مفارقتها. ولهذا، ليس مستغربًا استمرار وجود محاولات لإطالة عمر الإنسان، انطلاقًا من رؤية تُعدُّ الشيخوخة مجرّد مرضٍ ينبغي أن يكون بالإمكان معالجته أو التخفيف كثيرًا من آثاره السلبية.
فلطول العمر سلبياتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ أيضًا. فعلى الصعيد الجمعي، يمكن لإطالة عمر البشر أن تُفضي إلى زيادة أعدادهم لدرجةٍ قد لا يستطيع كوكب الأرض، ولا الأنظمة الصحية والاقتصادية الدولية والعالمية، تحمّلها. كما قد يتضمن ذلك مخاطر حقيقية على وجود البشر وممكنات بقائهم وازدهارهم.
أما على الصعيد الفردي، فطول العمر والتقدّم فيه يترافقان عادة مع تدهورٍ متزايدٍ في صحة الإنسان الجسدية والعقلية، مما يفضي إلى ازدياد انعزاله وإلى تدهور نوعية الحياة التي يحياها عمومًا. كما تزداد احتمالية أن يشهد موت المزيد من أحبابه، وهذا هو الموت (الأسوأ)، كما أشرنا في التدوينة السابقة.
هناك من يرى إمكانية أن تُفضي الأبحاث العلمية إلى تجنّب كلّ السلبيات المذكورة، بحيث تكون إطالة عمر الإنسان متاحةً للجميع، وبالتالي لا تزداد احتمالات موت أحباب "طويل العمر". كما أنّ الأبحاث تسعى، ليس إلى إطالة عمر الإنسان فحسب، بل إلى التخفيف من تدهور الصحة النفسية والجسدية.
لكن، إذا سلّمنا بإمكانية نجاح المحاولات العلمية في تحقيق كلّ ما سبق، يبدو أنها ستبقى عاجزةً عن جعله قادرًا على مواكبة التغيّرات الكبيرة والمتسارعة في الحياة. وهذا العجز يعني غالبًا توقّف أو تراجع إنتاجيته، أو تراجع في درجة المقبولية بينه وبين الأجيال اللاحقة، وازدياد الشرخ بين الأجيال عمومًا. ويمس العجز المذكور المجال المعرفي والتقني من جهة، والمجال الاجتماعي والثقافي الأخلاقي، من جهةٍ أخرى.
ففي المجال التقني، تتسارع التغيرات تسارعًا كبيرًا. ولم يكن بإمكان كثيرين الحفاظ على عملهم ومكانتهم أو الحصول عليها، من دون السعي إلى تطوير معارفهم وخبراتهم واكتساب مهارات جديدة. وينطبق ذلك على صناعة النسيج، على سبيل المثال، مثلما ينطبق على العمل الأكاديمي أو السياسي أو التربوي إلخ. كما أنّ العالم الافتراضي أصبح أكثر حضورًا و"حقيقيةً" من العالم "الحقيقي" غير الافتراضي، في أحيانٍ ليست قليلةً.
ومع بداية القرن العشرين، بدأ كثيرون بمعرفة كيفية إرسال أو استقبال بريدٍ إلكترونيٍّ، وخلال سنواتٍ قليلةٍ أصبح اعتمادهم على التواصل عبر شبكة الإنترنت كبيرًا جدًّا، لدرجة شعورهم أو إصابتهم بالشلل عند فقدانهم القدرة على التواصل الإنترنتي. وفي حين أنّ هناك من يظنّ أنّ امتلاكه حسابًا فيسبوكيًّا يعني أنه متناغمٌ مع تطوّرات العصر، علمت من خلال قراءاتي ومحادثاتي مع عددٍ من الطلاب في جامعة كولن، مثلًا، أنّ معظم الطلبة ليست لديهم حسابات فيسبوكية (نشطة) وأنهم يفضلون وسائل أخرى، كـ"إنستغرام" و"تيك توك" على سبيل المثال، وتكوّن لديّ انطباع بأنّ عددًا (كبيرًا) من أفراد الأجيال الجديدة ينظر إلى الفيسبوك نظرتنا إلى تراثٍ اندثر أو سيندثر أو ينبغي أن يندثر عاجلًا أم آجلًا.
والحديث هنا هو عن وسائل حديثةٍ جدًّا عمومًا. ومع ازدياد الاعتماد والاعتياد على تلك الوسائل، يصعب أحيانًا تصديق أنّ "لينكد إن" قد ظهر في 2002، و"فيسبوك" في 2004، و"يوتيوب" في 2005، و"تويتر" في 2006، و"واتساب" في 2009، و"إنستغرام" في 2010، و"سناب تشات" في 2011، و"تيك توك" في 2016 ... إلخ. وبدون مواكبة بعض هذه التغيّرات المتسارعة، وذات الحضور المتزايد كمًّا وكيفًا، يصعب أن يبقى الإنسان حاضرًا، في أحيانٍ ليست قليلةً. لكن ليس من السهل مطلقًا النجاح في هذه المواكبة، ولهذا من المرجح أن يشعر المتقدمون في العمر، عاجلًا أم آجلًا، بأنّ "القطار قد فات"، وأنّ حضورهم وتأثرهم وتفاعلهم مع الآخرين قد أصبحت ضعيفة وهامشيّة أكثر فأكثر.
مع تقدم الإنسان في العمر يزيد احتمال أن يصبح أكثر دوغمائيةً أو تمسّكًا بالحقائق والمعارف التي اكتسبها سابقًا، وأقل قابليةً للقبول بإحداث تغييراتٍ (جذريةٍ) فيها
ومع تقدم الإنسان في العمر يزيد احتمال أن يصبح أكثر دوغمائيةً أو تمسّكًا بالحقائق والمعارف التي اكتسبها سابقًا، وأقل قابليةً للقبول بإحداث تغييراتٍ (جذريةٍ) فيها. وحتى من كان ثوريًّا في شبابه يمكن أن تنقلب ثوريته إلى محافظةٍ وتحفظاتٍ على الثورات اللاحقة.
هذا ما يبدو أنه قد حصل، على سبيل المثال، مع نيلز بور وماكس بورن وريتشارد فاينمان الذين كانوا من أبرز المساهمين في ميكانيكا الكم والمتبنين لأطروحاتها الثورية، قبل أن يميلوا إلى المحافظة لاحقًا أكثر فأكثر. ولهذا قيل إنه لا يمكن للمعارف أو الحقائق الجديدة، حتى في الميدان العلمي، أن تسود وتهيمن إلا بعد موت أصحاب الحقائق القديمة.
وفي المجال الاجتماعي والثقافي الأخلاقي، تتغيّر الأذواق والاتجاهات والموضات بتسارعٍ تصعب على كثيرين مواكبته وتقبّله أو حتى قبوله والتعايش معه. فكثيرون ممن كانوا معتادين على لبس الشروال وجدوا أنّ ارتداء الرجال، فضلًا عن النساء، للبنطال/ السروال أمرًا معيبًا، وغير مقبولٍ، وتساءل بعضهم مستهجنًا: "كيف يقبل الإنسان أن تظهر شقة خلفيته؟".
وأذكر أنني بعد غيابي عن سورية بين عامي 2004-2010، لاحظت، عند عودتي، حصول تغيّرين لم أستسغهما. التغيّر الأول يتعلق بسندويشة الشاورما، فقد كانت مختلفةً تمامًا من حيث الصلصة والتبلة والسلطة أو الخضرة إلخ. أما التغيّر الثاني فيتعلق بشكل الأحذية الرجالية، فقد أصبح الحذاء ذو البوز الرفيع هو الموديل السائد والمهيمن، مع أنّ ذلك الموديل كان نادر الحضور ومستهجنًا من قبل كثيرين قبل بضع سنواتٍ فقط. وما زلت حتى الآن أجد صعوبةً في تقبّل أو حتى قبول التغييرين المذكورين، وتبنيهما.
ويصعب على كثيرين ممن صاغت أغاني أم كلثوم ذوقهم الغنائي والموسيقي أن يفهموا تفضيل الأجيال اللاحقة لـ"الهضبة" عمرو دياب، وأن يصبح جورج وسوف "سلطان الطرب"، وتامر حسني "نجم الجيل" و"أسطورة القرن"، على سبيل المثال. وفي تبريره لعدم (قدرته على) متابعة المسلسلات العربية منذ فترةٍ طويلةٍ، وضع الصديق حسام عتَّال صورة فاتن حمامة في صفحته الفيسبوكية وكتب: "أعطوني ممثلة واحدة اليوم بهذا الجمال والثقافة والأناقة وحسن الكلام والطيبة والذوق".
هناك من يصرّ على الاحتفاظ ببصمات عصره القديم، فيبدو عليه الاغتراب في الحاضر
لإظهار الاختلاف بين الأجيال كان الإنسان يلجأ، على سبيل المثال، إلى تخيُّل آلة للزمن تسافر عبر القرون أو العصور وتبيّن المفارقات المضحكة التي تحصل للإنسان حين يتصرّف في عصر ما، وفقًا لعادات وقيم وأفكار عصرٍ آخر. ولعل شخصية دون كيخوته تبيّن ما الذي يحصل لمن يتبنى "قيم الفرسان"، ويتصرف على أساسها، في عصرٍ مغايرٍ لعصرها. وهناك من يصرّ على الاحتفاظ ببصمات عصره القديم، فيبدو عليه الاغتراب في الحاضر. وهذا ما يظهر، على سبيل المثال، عندما يتقمَّص شخصٌ ما شخصية "أبو صياح"، ويبدأ كلامه بالقول، بمحاكاة طريقته: "سيداتي، آنساتي، سادتي، أسعد الله أوقاكم".
يمكن للموت أو الموات الروحي أو المعنوي أن يحصل قبل حصول الموت العضوي للإنسان. وليس نادرًا أن يفاجئنا خبر موت شخصٍ ما، لأننا، نتيجةً لعدم سماعنا بأيّ خبر عنه أو بخبر أي نتاجٍ أو عمل له، كنّا نظن أو نعتبر أنه قد مات منذ وقتٍ طويلٍ. فالحياة صيرورةٌ وحركةٌ وتغيّرٌ، حتى في المؤشر العضوي الطبي الذي يشير إلى حركة القلب النابض بالحياة. وبالنسبة لكثيرين، فإنّ الموت المعنوي ليس أقل إيلامًا من الموت العضوي.
لقد رأى كثيرون إيجابيةً في إمكانية طول العمر من حيث إنه يساعد على تطوير ممكنات الإنسان/ الفرد، وعلى تحقيق أكبر لتلك الممكنات. لكن قلّة فقط أدركت إمكانية أن يسهم طول العمر، ليس في أن يشهد الإنسان موت عددٍ من أحبابه وأصحابه فحسب، بل أن يشهد أيضًا موته الشخصي المعنوي أيضًا، حين يرى أن العالم الذي اعتاد على العيش فيه والألفة معه يختفي تدريجيًّا ويحلّ محله عالم بل عوالم غريبة يشعر بالاغتراب فيها وتجاهها وبسببها.
يمكن للموت أو الموات الروحي أو المعنوي أن يحصل قبل حصول الموت العضوي للإنسان
تجنّب الموت المعنوي يحتاج إلى جهودٍ متزايدةٍ مع مرور الزمن. وتزداد مواكبة تلك التغيّرات صعوبةً أكثر فأكثر، بسبب التسارع المتزايد لتلك التغيرات، كمًّا وكيفًا. لذا ينبغي للرغبة الخالدة في الخلود أن تأخذ ذلك في الحسبان، وأن تدرك أنّ الخلود أو طول العمر العضوي لا يضمن الخلود أو طول العمر المعنوي أو يساعد عليه، بالضرورة، بل قد يكون عقبةً في وجهه. فاستمرار الوجود قد لا يترافق مع استمرار الحضور، ولا يتناسب هذان الاستمراران بالضرورة طردًا، بل قد يتناسبان عكسًا.
والعجز عن مواكبة التغيّرات قد يكون إراديًّا أحيانًا، من حيث إنّ الإنسان يرى في التغيّر الحاصل انحطاطًا أو تدهورًا، أو تخليًا أخلاقيٍّ عمّا ينبغي عدم التخلّي عنه، فيصبح "دون كيخوته" بوعيٍ وتصميمٍ، فينجح حينًا في استحضار عالمه، وفرض قيم ذلك العالم، ويخفق أو يفشل في معظم الأحيان؛ إلى أن يدرك، تدريجيًّا وفي النهاية، أنّ العصر لم يعد عصره، وأنه لم يعد ينتمي إلى "هذا الزمان" ولا إلى "ذلك المكان"، وأنهما ما عادا ينتميان إليه.
وهنا، يمكن للإنسان أن يكتشف، من جديدٍ، أنّ الموت (العضوي) ليس أسوأ أو أكبر الشرور. وأذكر أنني خلال إلقائي لمحاضرة في إحدى المدارس الألمانية عن المسائل أو الخبرات الإنسانية التي يمكن عدُّها "أسوأ من الموت"، قد فوجئت مع الطلاب حينها بأنّ القائمة التي تضم تلك المسائل أو الخبرات المذكورة أكبر بكثير مما يُظن، في أحيانٍ كثيرةٍ.
في القدرة على مواكبة صيرورة الحياة، وإيجاد المعنى فيها، والتفاعل الإيجابي معها، توجد حياة الإنسان فعليًّا، ويكمن وجوده الحي أو حضوره. وقد رأى فلاسفةٌ كثيرون أنّ هذا، خصوصًا أو تحديدًا، ما ينبغي للإنسان أن يركز عليه، بالدرجة الأولى: كيف الحياة أو نوعيتها، وليس كمها أو عدد سنواتها.
لكن الإنسان "المجبول على الطمع" قد يتساءل في سرّه أو في علنه: ولم عليّ الاختيار بين كمّ الحياة وكيفها؟ ألا يمكنني وينبغي لي السعي إلى الجمع بين المجدين؟ لكن قد تأتيه الإجابة العملية بأنه ليس نادرًا، أو من المرجح، أن تنتهي عملية ملاحقة الطريدتين إلى عدم الإمساك بأيٍّ منهما.