فن الشارع في المغرب: من "الأندر غراوند" إلى المأسسة
مع بداية الألفية الجديدة، برزت إلى الواجهة الثقافية المغربية بعض الحركات والتظاهرات الفنية الشبابية بقوة مستلهمة من انبثاق فنون الشوارع والهيب هوب في أبرز العواصم الغربية في أواخر الثمانينيات.
ويعود التاريخ الفعلي لولادة الثقافة الحضرية وفنون الشوارع في المغرب إلى منتصف التسعينيات، عندما قام الشباب المغربيون المهاجر في أوروبا، خصوصا في دول مثل هولندا، بلجيكا، إسبانيا وبريطانيا، بنقل هذه الأساليب التعبيرية إلى المغرب عند عودتهم إلى ديارهم.
آنذاك، كانت ممارسة الغرافيتي على الجدران والفضاءات العامة هي الأكثر ممارسة كنوع من التمرد والتعبير الشبابي على سنوات من القمع الشعبي الذي مورس في عهد الملك السابق. لهذا، يمكن القول إن هذه التجارب الفردية كانت تعبر عن الهامش وعن تيارات الأندر غراوند (العالم السفلي).
لهذا السبب، ظلت مثل هذه التجارب الفنية غير مدعومة من قبل الجهات الحكومية والجمهور على حد سواء. بل إنه، كما حال هذا الفن في الخارج، كان ينظر إلى الغرافيتي على الخصوص على أنه مجرد تخريب وتشويه للفضاء العام. أما الرسم في الشارع، وخصوصاً التشخيصي منه، فكان يسقط في فلك المحرم والممنوع وذلك بسبب انتشار الفكر الوهابي التكفيري بالتزامن مع انتشار الهيب هوب في المغرب. وبهذا واجهت هذه الحركات تحدياً مجتمعياً كبيراً يقف أمام تطورها.
ومع مرور الوقت، وخصوصاً بعد الانفراج السياسي في المغرب في عهد الملك الجديد، بدأ يبرز تصالح مع هذه الحركات القادمة من الخارج سواء في الغرافيتي أو الهيب هوب. ومع الشعبية التي كسباها في صفوف الشباب، بدأ الجمهور يتقبل ويتصالح مع فكرة الفن عموماً وفنون الشارع خصوصاً.
وللإشارة، فإن هذا التسامح مع الرسم في الفضاء العام بدأ في أواخر الثمانينات مع بداية موسم أصيلة الثقافي الدولي بريادة كل من التشكيلي الراحل محمد المليحي والسياسي محمد بنعيسى. في هذه التظاهرة الفنية الفريدة، كانت تتم دعوة فنانين تشكيليين مغاربة وأجانب لرسم لوحات وجداريات في الفضاءات العامة وعلى جدران منازل مدينة أصيلة.
لكن حركة فن الشارع وهذه المبادرة هما أمران مختلفان تماماً. فبينما موسم أصيلة يُعتبر تكريساً لممارسة نخبوية نوعاً ما حيث تتم دعوة تشكيليين من مرسمهم ليرسموا في الخارج، كان فن الشارع والغرافيتي يعبر عن محاولات لفرض نبض الطبقات الشعبية على الشارع والفضاء العام تمرداً على التهامه بالإعلانات وخروقات الخواص وذوي السلطة.
لذا كان فن هؤلاء مضاداً للثقافة النخبوية والتي سخّرت تَملُّك فئات غنية لقاعات العرض، وكذلك امتلاك القرار حول الفنانين الذين يجدونهم لائقين بالعرض والذين يجب رفضهم.
كان فن هؤلاء مضاداً للثقافة النخبوية والتي سخّرت تَملُّك فئات غنية لقاعات العرض وكذلك امتلاك القرار حول الفنانين الذين يجدونهم لائقين بالعرض والذين يجب رفضهم
بالتالي، كان العديد من رواد فن الشارع بالمغرب مِمَّنْ تم رفضهم من المعهد الوطني للفنون الجميلة. فبدأ هذا الرفض يبين مسعاهم نحو فكرة دمقرطة الفن وإخراجه من فضائه النخبوي إلى الشارع، لكي يتمكن الهامش والمواطن العادي أيضاً من التفاعل والتحاور مع فن لطالما ظل حبيسا عنهم.
وفي فترة قصيرة، حققت أعمال هؤلاء الشباب شعبية وانتشاراً كبيرين خصوصاً وانتشار صورها على الإنترنت، الشيء الذي لم تحققه أعمال فنانين مؤسساتيين نخبويين. ويمكن الحديث عن أنّه إذا ما نمت هذه التجارب الفنية وارتقت من ناحية التنظيم والتأثير، فقد نتحدث عن بروز أول تيار فني قائم بحد ذاته في المغرب وهو تيار فنون الشارع.
حاليا، ظهرت فعاليات قامت بتبني فن الشارع ودمجه في بعض نماذج الفنون الحضرية من أجل إضفاء بعض القبول الشعبي عليه. وقد احتضنت هذه الفعاليات الفنية مهرجانات للفنون الحضرية وفن الشارع ووَحَّدت صفوف فناني الشارع بعدما كانت متفرقة.
وبالفعل، ما يميز فعاليات مثل مهرجان "جدار" بالرباط أو "صباغة باغة" بالدار البيضاء هو أنها دعت لإعادة الاعتبار لارتباط الفنانين المغاربة بهويتهم المغربية الغنية بالتعدد والتنوع بعدما كانت ضحية الشرخ والنظرة الدونية لها من طرف النخبوية الفرنكوفونية ذات النظرة الكولونيالية على الفنون بالمغرب. وبالتالي، بفضل مجتمع فن الشارع، أدت هذه الفعاليات إلى ترسيخ الاعتزاز بالهوية الثقافية والفنية المغربية والتي لطالما اعتُبِرت مظهراً من مظاهر الثقافات "الدنيا" من طرف النخبوية الفرنكوفونية.
ومن جانب آخر، يمكن اعتبار هذه الفعاليات مساهمة نوعية للفضاء المغربي الذي طبعته كل مظاهر القبح والهشاشة.
بروز هذه الفعاليات ونجاح تأطيرها أديا إلى أن يفرض تيار فنون الشارع والفنون الحضرية نفسه بقوة على الساحة الفنية المغربية. لكن لم يحل هذا دون أن تصبح هذه الفعاليات مُتملَّكة مؤسساتياً حيث أصبحت تحكمها وتؤطرها مؤسسات خاصة وحكومية.
إلى جانب هذا، برزت انتقادات أخرى لهذه الفعاليات، حيث أدت مأسستها إلى تركيزها بمدن مركزية مثل الرباط، مراكش والدار البيضاء. وهذه مدن تستفيد مسبقا من جل التمويل والاهتمام بدلاً عن مدن هامشية في شمال أو جنوب شرق البلاد والتي قد تكون أولى بمثل هذه المبادرات حيث لا تتوفر على قاعات للعروض ومتاحف وغيرها من المؤسسات التي يمكن أن يتفاعل فيها الجمهور مع الفن.
ومن جهة أخرى، بفعل هذا التزاوج بين المؤسسة النخبوية وفعاليات الفن الحضري يمكن أن نقول إن حركات فن الشارع قد خرجت عن سياقها حيث لم تعد محصورة بالعالم السفلي الذي ولدت فيه بل وأصبحت متبناة ومؤطرة من طرف مؤسسات نخبوية هي نفسها التي كانت تحتكر الفن البصري في البلد والذي لم يتميز بالدمقرطة أساساً. بل إن هناك من تجرأ أن يُدخل فن الشارع إلى قاعات العرض وإلى معادلة الربح عبر تسويقه لجمهور من المفترض أن يُوفَّر لهم بالمجان في الشارع والفضاءات العامة.
هذا الانزلاق نحو المأسسة والانزياح عن الأسس الرئيسية حَوَّل هذه التظاهرات من تظاهرات "لفن الشارع" إلى تظاهرات "فن حضري معاصر". وبهذا لم يعد يمكننا التكلم عن هذه الفعاليات على أنها تعيش خارج لعبة السوق كما كانت في بدايتها.
ولكن، بعيداً عن التخبط في الانتقادات وقتل هذه الحركات قبل ولادتها، من الواجب الاعتراف لها بكونها ساهمت ولا تزال تساهم في تصالح المجتمع المغربي مع الفنون البصرية عموما حيث إنه في مجتمع إسلاموي مثل المغرب، جل الفنون ينظر إليها على أنها "دنيا" وحرام.