النسوية والرأسمالية... أية علاقة؟ (1)
مما لا شك فيه أنه منذ نشوئها، حقّقت الحركة النسوية الكثير من المطالب للنساء داخل المجتمعات. لكن في الآونة الأخيرة، بدأت الحركة بفقدان زخمها مع بروز العديد من المشكّكين فيها. ومن بين الانتقادات، أن النسوية أصبحت كمبتغى رأسمالي. ولعقود من الزمن، كانت هذه الأخيرة مرتبطة ومتشابكة مع الرأسمالية والنظم النيوليبرالية. ومع ذلك، لطالما صوّرت الحركة النسوية نفسها في تناقض وتعارض مع بعض الأسس الرأسمالية، لأن الدفاع عن استقلال النساء من النُسق الرأسمالية الذكورية، كان من بين أهم المطالب المسطّرة في البيانات النسوية الأولى.
لكن في الحقيقة، يوجد ارتباط حميمي غير معلن عنه بين الرأسمالية والحركة النسوية في المجتمعات الغربية، على وجه الخصوص. فنجد أن كلا من النسوية والنظم الرأسمالية قدّمتا خدمات نفعية لبعضهما بعضا. لكن في وقتنا الحاضر، يبدو أنّ النظم النيوليبرالية قد التهمت الحركة النسوية حتى أصبحت مثل "خادمة بيت لدى الرأسمالية" كما أعلنت عن ذلك الفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر.
تاريخياً، كسبت النسوية زخماً غير مماثل له في حقبة ما بعد الحربين العالميتين، حيث بدأت القيم النيوليبرالية الحديثة بالبروز في مجتمعات أوروبا الغربية وشمال أميركا. وفي نفس الحقبة أيضاً، في سنة 1948 على وجه التحديد، تمّ الاتفاق على إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
هذا الإعلان لم يؤكد على ضرورة احترام حقوق النساء والإنسان فقط، بل ألغى وجرّم عمالة الأطفال كذلك. ومع الخسارة المهولة في الموارد البشرية من الشباب والرجال في الحرب، والطلب المتزايد على العمال والبضائع المصنّعة، أضحى سوق الشغل أمام واقع يُحتِّم عليه البحث عن طبقة عاملة جديدة لسدّ هذا الفراغ. بمعنى، تشغيل النساء في المعامل والشركات.
البيت الأسري الذي يعمل فيه كلّ من الزوج والزوجة أفضل للمجتمع الرأسمالي من الأسرة التي لا تزال فيها الهياكل الأسرية النووية والتقليدية مهيمنة
لكن اقتياد النساء من بيوتهن ونظم عيشهن التقليدية إلى المعامل وبيئات عمل مع الرجال لم يكن بالأمر الهيّن. لهذا احتاج الرأسماليون مقاربات إيديولوجية جديدة تخوّلهم ذلك من دون أن يكونوا في موقع احتجاج أو انتقاد. ولهذا قامت الرأسمالية باعتناق واحتضان زخم الإيديولوجية النسوية.
وبسبب هذا التزاوج، أصبح من السهل إقناع الناس بأنّ الأدوار التقليدية التي شغلتها المرأة داخل المجتمع هي أدوار عفا عنها الزمن ولا تتماشى مع قيم الحداثة والليبرالية السائدة. بل إنّ النُسق المجتمعية التي رسخت الأدوار التقليدية للمرأة هي نُسق ذكورية، كانت ترى في المرأة كائناً غير متساو في القدرة والفكر مع الرجل.
ومع إصدار وتمرير التشريعات القانونية بما يتناسب والأدوار المجتمعية الجديدة للنساء، سرعان ما حلّ عدد النساء العاملات في المصانع محلّ الفراغ الذي تركه تجريم عمالة الأطفال. ولفترة من الزمن، جمع بين الاثنين شيء مشترك؛ كلاهما شكّلا عمالة رخيصة ومربحة للنظام الرأسمالي المتعافي.
وفي الوقت نفسه، برزت مطالب نسوية استمرت في الطعن في عدم المساواة في الأجور مع الرجال. وعلى الرغم من أنّ النساء عملن بشكل أقل، وكان لديهن التزامات مالية أقل من الرجال، لم يكن الرأسماليون جد مقاومين لفكرة خلق نوع من التوازن في الأجور بين قوتهم العاملة. لكن مستقبلاِ تبيّن أنّ هذا القبول كان مشروطاً وليس غيرياً كما كان ظاهراً.
فبعدما تمّ إجراء العديد من الاستطلاعات حول عادات التسوّق والشراء بين الرجال والنساء، اتضح أنّ المرأة العاملة العادية تستهلك على الأقل ضعف ما يستهلكه زميلها العامل. بالنسبة للرأسماليين، فهذا المعطى يعني أنّ الأسرة التي تحتوي على الرجل كمعيل واحد ليست مستهلكة بما يكفي. أي أنّ البيت الأسري الذي يعمل فيه كلّ من الزوج والزوجة أفضل للمجتمع الرأسمالي من الأسرة التي لا تزال فيها الهياكل الأسرية النووية والتقليدية مهيمنة. لهذا لم تكن الزيادة في أجور الإناث خسارة بالبتة بالنسبة للرأسماليين، طالما أنهم ولَّدوا المزيد من المداخيل في المقابل.