فتى صغير يضحك على أبو تركي

06 أكتوبر 2018
+ الخط -
من يوم أن اقتنى ابن بلدتنا أبو تركي بارودة الصيد ذات الفوهتين (الجفت) أصبحت تُسْمَعُ بعد أذان المغرب من كل يوم طلقتان متتاليتان، يَفصل بينهما حوالي عشر ثوان.. وأهل البلدة يعرفون أن هاتين الطلقتين هما من جفت أبي تركي، وأنه أطلقهما تشجيعاً لنفسه على مواجهة الليل، فالليل، برأيه، يشكل أكبر تَحَدٍّ للرجال الشجعان الذين يسميهم (السباع)، وهو سبع، كما يقول لمجايليه عندما يتسكعون في المقهى نهاراً، يستطيع الاشتباك مع أي إنسان أو حيوان كاسر بالأيدي، ولكن الاشتباك بالجفت أحسن، لأنك تعاجل الخصم بطلقة (فَشَكة) قبل أن يصل إليك، فتكومه على الأرض مثل كيس الخردق، وتنفخ بفمك مكان الطلقة، لتبعد الدخان المنطلق، وتتابع طريقك إلى حيث كنت ذاهباً قبل الاشتباك.

وكان أصدقاء المقهى يضحكون للجدية المفرطة التي يتحدث بها أبو تركي، لا سيما وأنهم يعرفون أنه رجل مسالم، وجبان، يمشي بجوار الحائط ويقول يا رب سترك، والجفت الذي يحمله لا يخاف منه حتى الأولاد، ففي أكثر من مرة يلتقيه بعض الأولاد الذاهبين إلى المدرسة، ويسألونه عن الجفت.. ويقول له أحدهم بنوع من الشيطنة: 

- صحيح عمي أبو تركي كما يقولون إنك بعت الجفت؟

فيقول: يخسا اللي يقول.    

ويسأله آخر: لكان ليش ماشي في الزقاق وأنت أعزل؟

فيقول: أنا بشيل الجفت في الليل بس. وبعد المغرب كل يوم بضرب فشكتين.

فيركضون هاربين وهم يغنون: 

أبو تركي خَرْطَشْ جِفْتُه - أنا بعيني شِفْتُه - يا ربي تْمَوِّتْ مَرْتُه - وتساوي عْظَاما شَبَّابا.

كان بين رفاقنا في الصف الثامن فتى شجاع جداً اسمه مازن. كان مازن يذهب وحده في الليل إلى البستان، ويسهر هناك حتى الصباح، وإذا مر بجواره عقرب يضربه بحذائه فيرديه، وإذا مرت أفعى يركض باتجاهها، ويمسكها من رقبتها تاركاً فمها المفتوح ينفث السموم في الهواء..

قال مازن: تعالوا معي. امشوا ورائي في البعيد. أنا قررت أن أساوي "مَقْلَبْ" بـ أبو تركي.

الوقت بعد العِشاء. مشينا وراء مازن في البعيد، رأيناه يقترب من باب منزل أبو تركي ويطرق الباب. أبو تركي من الداخل يصيح: من؟ ثم يخرج متمنطقاً بالجفت و"صَفّ الفَشَك". مازن تصنع البكاء، وقال لأبي تركي إن أهله كلهم ذهبوا إلى البستان وهو كان نائماً في البيت، استيقظ الآن فوجد نفسه وحيداً.

قال له أبو تركي: أبشر. أهلاً وسهلاً بك يا عين عمك. بإمكانك أن تنام عندنا حتى الصباح، ووقتها يعود أهلك وتجدهم. هلق خالتك أم تركي بتحط لك عشا، وبتجهز لك الغرفة الخاصة بالضيوف حتى تنام.

وصاح إلى الداخل: يا أم تركي.

فجاءه صوتها من الداخل: ائمور ابن عمي أبو تركي.

قال مازن: لا، مو هاد طلبي. يا عمي أبو تركي أنت رجل شجاع، وعندك جفت ومعك فَشَك كتير، بدي منك توصلني لعند أهلي، لأني بخاف أني أروح وحدي..

أحس أبو تركي بالعطب، وقال لمازن: 

- آ؟ كيف؟ أوصلك لعند أهلك وأرجع أنا لهون؟ لحالي؟ 

ثم بدأ يغمغم وقال: أي والله لازم أوصلك، بس المشكلة أن خالتك أم تركي مريضة.. أي صحيح، تذكرت.. أم تركي البارحة أجتها جلطة، بعيد عنك. وهي هلق في المستشفى. نايمة في العناية المركزة. لازم أنا أروح لعندها. حرام نتركها لحالها. مو حرام؟! 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...