غناء محمد عبد الوهاب (علاك)

17 سبتمبر 2023
+ الخط -

الميزة الرئيسية التي يمتلكها صديقي أبو سعيد، الذي يتصل بي، أحياناً، من إدلب، أن ذاكرته قوية، وعنده ولع خاص بالحكايات الشعبية، وعلى الرغم من أنه أبدى إعجابه بالأحاديث التي رويتُها عن علي الديك وفهد بلان وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب ورياض السنباطي، إلا أنه بقي مشدوداً إلى عبارة ذكرتها في سياق حديثي، عن ابن بلدنا "أبو عمر" الذي كان لا يستمع لغير محمد عبد الوهاب، ويفضل أغانيه التي تعود إلى ما قبل سنة 1950، وأحياناً يسخر من أغنية "يا جارة الوادي"، وعندما يكون في سهرة، يتقصد أصدقاؤه إغاظته، فيمسك أبو سليم العود، ويعزف، ويغني أبو نعمان بصوته الأجش: يا جارة الوادي طربتُ عاد لي.. فيقول أبو عمر، بتهكم مستخدماً طريقة الأدالبة في إمالة الحروف:

- أشو ياه؟ عم تسمعوا يا جارة (الويدي)؟

قلت: سأحكي لك حكايات طريفة جداً عن أبو عمر وأصحابه. ولكن، على ذكر "جارةَ الوادي"؛ عندي فكرة مهمة، تتعلق بسعيد عقل الذي كان شاعراً مهماً، وصاحب ذائقة شعرية خاصة، بدليل أنه لا يعترف من المتنبي إلا ببعض الأبيات، وكذلك بمحمود درويش، ولكنه يبدي تأييده لتسمية أحمد شوقي أميرَ الشعراء، ويعلق على قصيدة يا جارة الوادي التي لحنها عبد الوهاب وغناها بصوته، وغنتها نور الهدى، وغنتها فيروز..

- ماذا قال عنها؟

- قال إن في القصيدة بيتين لم يدخلا في الأغنية، مع أنهما أجمل بكثير مما جاء فيها، وهما:

إن تُكرمي يا زَحْلَ شعري إنني

أنكرتُ كلَّ قصيدة إلاكِ

أنت الخيالُ، بديعُهُ وغريبُهُ 

اللهُ صاغَكِ والزمانُ رواكِ

قال: يا سلام. إنهما رائعان بالفعل.

قلت: تعال الآن إلى أبو عمر. كان أصدقاء أبو عمر يعرفون أنه متشدد في السماع، و(وهابي الهوى)، فيخططون لمقالب يضعونه من خلالها في مأزق يجعله يُظهر أقصى درجات السخرية من الأذواق البلدية. وهنا تحضرني قصة كان بطلها "أبو البكار" الذي كان يرتدي ثياباً غريبة، وينتعل في قدميه حذاء مدبب الرأسين، يقال له "الكسرية"، وحينما يمشي يثبت يده اليسرى بشكل عمودي على الأرض، ويلوح باليمنى حول جسده بشكل نصف دائري، وحينما يتحدث يحاول أن يتفنن في إخراج الكلمات والحروف بطريقة مموسقة..

- واضح أنه شخصية طريفة.

- نعم، ولكن طرافته تصبح مضاعفة عندما تجمعه مع أبو عمر صاحب الذوق الفني الرفيع الذي لا يحب فريد الأطرش، ويقول عن أم كلثوم إذا ذكرت أمامه: نعم، هي مطربة جيدة، ولكن مو متل الأستاذ (عبد الوهاب)، وحينما يسألونه عن ميادة حناوي يقول: صوتها علاك، لكن عليها وجه يمجد الذي خلقه. المهم، قام أبو نعمان بترتيب المشهد، كما لو أنه مخرج متمكن. دعا جميع أفراد المجموعة، وفي مقدمتهم أبو عمر بالطبع، إلى سهرة طرب تتخللها صينية كنافة أم النارين. بالمناسبة، يا أبو سعيد، معظم المقالب التي تُجرى في إدلب كانت تترافق مع صينية كنافة أم النارين.

- معهم حق يا أبو مرداس، فأكل الحلوى يُدخل السعادة إلى قلوب الحاضرين، ويرفع لديهم معدل المرح، ويتقبلون المقالب برضى.

- صحيح. المهم، كان المقلب يقتضي أن يفتح أحدُ الحاضرين مكان الكاسيت، ويقول لأبو عمر (هات لنشوف)، وأبو عمر، كالعادة، يمد يده إلى جيبه، ويُخرج شريطاً فيه بعض أغاني عبد الوهاب التي تعود إلى ما قبل 1950، وعندما يبدأ الاستماع، ويطرب أبو عمر ويسلطن، يُؤْذَنُ لـ أبو البكار بالدخول، فيدخل، ويسلم على العريض، مستبدلاً كعادته الميم بالنون: السلام عليكووون. وبينما يبدأ الحاضرون برد السلام، يجلس أبو البكار بجوار أبو عمرو، ويقول:

- اطفوا لنا هالبَلَّاطة خلونا نحكي كلمتين.

- يا سلام. هنا ذروة المقلب.

قلت لأبو سعيد: دعني اشرح لقراء المدونة، أن أهل إدلب عندما يريدون أن يقللوا من قيمة شيء ما، يستخدمون كلمات من قبيل: الشَيّاع، والبَلَّاط، والماخود، والسايب، وبما أن المسجلة مؤنثة يقولون: البَلَّاطة.. المهم؛ هنا بدأت ردود فعل أبو عمر التهكمية تظهر على نحو رائع. فقد أيد على كلام أبو البكار، وقال:

- نعم. أطفئوا المسجلة، وأغلقوا الأبواب، وإذا سمحتم أوقفوا الحكي الجانبي، ودعونا نركز على ما سيقوله أخونا أبو البكار، فبوجود إنسان مثقف، وفهيم، ومليء، وضليع، مثل هذا الإنسان، يصبح سماع غناء عبد الوهاب نوعاً من العبث، وإضاعة الوقت، دعنا نصغ، لكي نستفيد، ونقتبس من الحكم والدرر التي سيتلفظ بها.

والتفت أبو عمر إلى أبو البكار وقال له: تفضل أخي العزيز، اسمعنا وأطربنا، فقد أصبحنا كلنا آذاناً صاغية.

أبو البكار، من فرط غبائه، اعتقد أن أبو عمر يتكلم جاداً، وصار ينتفش ويرفع صدره إلى الأعلى، ثم قال:

- تريد الحق يا عمي أبو عمر؟ أنا جئت إلى هنا لأن أخي أبو نعمان حكى لي عنك، وعن ذوقك الفني، ولكنه قال لي عبارة غريبة، وهي أنك تحب المطرب محمد عبد الوهاب. يا رجل، هذا المطرب أصبح دقة قديمة، وما عاد أحد في الدنيا يستمع إليه.

هز أبو عمر رأسه، وصار يمثل دور النادم، المقتنع بكلام محدثه، ثم قال:

- نعم، صحيح، ولكن، نحن كبار السن، عقولنا صغيرة، بعيد عنك، مثل الأولاد الصغار، كلمة تأخذنا وكلمة تجي بنا، وللأمانة؛ يوجد شخص عزيز علي نصحني بسماع هذا المطرف الهفتان، محمد عبد الوهاب، ولكن حظي الآن أصبح جالساً، فقد هيأ لي ربي إنساناً مثل حضرتك، ينقط العلم والأدب والفن من كُمَّي سرواله، وأوضحتَ لي، مشكوراً، أن عبد الوهاب دقة قديمة، والحقيقة أنه ليس دقة قديمة فقط، بل إنه ممل، ومزعج، والمعاني التي يقولها مؤذية، تخيل، أخي أبو البكار، عنده أغنية اسمها الفن، يقول فيها:

الدنيا ليل والنجوم طالعة تِنَوَّرْها

نجوم تغيّر النجوم من حسن منظرها

ياللي بدعتوا الفنون وفي إيدكو أسرارها

دنيا الفنون دي جميلة وانتوا أزهارها

والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها

بشرفك، يا أبو البكار، ألا ينتمي هذا الحكي إلى جنس العلاك؟

قال أبو البكار: علاك مصدي حاشاك. على كل حال أنا لم آتِ إلى هنا خالي اليدين، أحضرتُ لكم معي كاسيتاً فيه حفلة المطرب "ناظم الجعرّ" في قرية "البيلعة".

وأخرج الكاسيت من جيبه، وقذفه لصاحب المجلس وقال له:

- شغل خاي شغل، خلينا نسمع.

(للحديث صلة) 


 

 

 

 

    

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...