عوامل ركود الإنتاج العلمي
تميّز العالم الإسلامي إبان استفاقته الحضاريّة بحركيّةٍ علميّةٍ ملأ صداها ربوع المعمورة، وكانت الحياة المعرفيّة فيه حافلةً بمختلف الفعاليّات العلميّة، من ترجمةٍ وتأليفٍ واطلاعٍ وبحثٍ واستقصاءٍ، ورحلةٍ في سبيل طلب العلم ونَهَمٍ كبير لنهله من شتى الأصقاع، لتثمرَ تلك الحماسة العلميّة المتوقدة، منتجاتٍ معرفيّة ملأت الربوع التي حطّ بها العرب والمسلمون رحالهم، فازدانت الأرجاء بجماليّاتِ الفكر وغزارة العلم، وهذه الحقيقة ليست ضربًا من المبالغة والادّعاء، إذ شهد بذلك كبار الكتّاب الغربيين واعترفوا للعرب والمسلمين بما قدّموه للحضارة العالميّة.
وفي هذا الصدد، يقول المفكر جيمس جيرالد كراوثر في كتابه "قصة العلم"، ما نصّه: "لقد كان العرب المسلمون أمة جديدة بلا معرفة أو تراث سابق، فقرؤوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم، ولذلك وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعها عندهم على قدم المساواة، وكان من نتاج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنّهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم "العالمية" في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات بالغة الأهمية للعلم، وكانوا باحثين جادين يتصفون بالذهن الحاد والذكاء الشديد والملاحظة المرهفة، وبرزوا موسوعيين نقديين وتفوق منهم كثيرون أشهرهم: ابن سينا."
وفي كتابه "مآثر العرب في الحضارة" يقول رام لاندو: "إنّ المسلمين قدموا الكثير من الفتوحات في العلوم، فاجتذب ذلك العلماء والحكماء وأهل البحث والنظر ورجال الفن والأدب من جميع الأصقاع، وأنشؤوا مؤسسات لنقل علوم الشعوب (بيت الحكمة، دار الحكمة، دار العلم، الجامع الكبير)كما أنشؤوا المكتبات".
ويقول جوروج سارتون: "لقد كان العرب أعظم معلمين في العالم". أمّا صاحب "قصة الحضارة" ول ديورانت، فيقول: "لقد كان اتصال العرب بالثقافة اليونانية في بلاد الشام مما أيقظ فيهم روح المنافسة العلمية القوية لليونان، ولم يمض إلا زمن قليل حتى أصبح العالم والشاعر من أصحاب المكانة العليا في بلاد الإسلام".
ما زالت أنظمتنا التعليميّة تعتمد على التراكمية المعرفية لا على تنمية المدارك العقلية
واليوم تعتري مجتمعاتنا الإسلاميّة معضلات كليّة سبّبت انحسار فاعليّتها الفكرية ونضوب عطائها العلمي، وإنّ معرفة هذه العقبات والعمل على إزالتها هي أُولى خطواتِ التحرير والتغيير والاستئناف الحضاري، وكثير من هذه العقبات تعود إلى معوقات ترتبط أساسًا بأنماط التفكير، ونوعيّة الأفكار في المجتمعاتِ الإسلاميّة، وازدراء قيمة العقل، وغياب الثقافة العلمية، والتشبّث بالأفكار الذائعة، والخضوع السلطوي لعالم الأشخاص، وهي معوقات كبّلت الإرادة الجماعيّة وأدّت إلى غياب الديناميكيّة المجتمعيّة.
كما أنّ غياب الدعم السياسي والوعي القيادي بجدوى الاستثمار في المعرفة، مع كثرة الاضطرابات السياسيّة والأمنيّة في العالم العربي، إضافة إلى ضعف نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الإنفاق المحلي، التي تُعتبر متدنّية مقابل ما تنفقه أصغر دولة أوروبيّة، بل إنّ الكيان الصهيوني ينفق ما يربو عن 5,02% من إجمالي الإنفاق المحلي، في حين لم يتعدَّ إنفاق الدول العربيّة مجتمعةً نسبة 2,23%.
كما أنّ تهميش دور العلماء والمفكرين وقادة الرأي وضعف أحوالهم الاجتماعيّة والمهنيّة، مع انعدام البيئة المثالية للمعرفة والبحث العلمي، والغياب شبه الكلّي للتعاون البيداغوجي (أصول وأساليب التدريس) والتمويلي بين القطاع الخاص والجامعات ومراكز البحث، مثلت أبرز عوامل الركود والتردّي واتساع الفجوة التكنولوجيّة بين العالم المتقدّم الذي يفضّل البعض تسميته بدول المركز، وبين العالم المتخلّف الذي يُصطلح على تسميته بدول الهامش.
يضاف إلى ذلك جمود مناهج التعليم، فأنظمتنا التعليميّة للأسف ما زالت تعتمد على التراكميّة المعرفيّة لا على تنمية المدارك العقلية، وعلى الحفظ لا الفهم، والتلقين دون الاستنباط، والإذعان دون النقد والتحليل، والتقليد دون الإبداع والتجديد، والتأصيل النظري دون المختبرات والعمليّات التجريبية، فهي لا تمنح للمتعلّم مساحة كبيرة لاختبار مهاراته الإبداعية واستكشافها.
وبالنظر إلى صفحاتِ التاريخ يتبيّن لنا أنّ ازدهار الحياة العلميّة والفكرية للمسلمين في عصور المجد العلمي، كان من أكبر أسبابه: الالتحام التاريخي الذي حصل بين القادة والعلماء، وما نتج عنه من تشجيع للبحث العلمي وإكرامٍ لأهله واهتمامٍ بإنشاء حواضر العلم ومؤسّساته، وهو ما يجعلنا نؤكّد أنّ ركود الإنتاج المعرفي في مجتمعاتنا الإسلاميّة المعاصرة، يرتبط بعجزٍ ذاتي تغذّيه أسباب داخلية متعدّدة الجوانب، أكثر من ارتباطه بالأسباب الخارجيّة التي تدفع نحو استبقاء حالة التفكّك والجمود في الأوطان العربية، واستدامة تبعيتها للقوى الإمبريّالية، المستفيد الأكبر من حالة الوهن الحضاري للمسلمين.