مؤسّسات التعليم في الجزائر.. واقع وآفاق
تعني الفعالية التنظيمية قدرة المنظّمة على تحقيق الأهداف المنشودة في الوقتِ المناسب، وذلك بالاستغلال الأمثل للموارد المالية والمادية والبشرية المُتاحة. كما تتطلّب وجود مقوّمات أساسية منها: الكفاءات البشرية، جودة القوانين وأنظمة العمل، بيئة مهنية محفّزة، تكنولوجيا متقدّمة، التنافسية والجودة الشاملة، المهارات القيادية.
وتعاني مؤسّسات التربية والتعليم في بلداننا من تقادم القوانين التنظيمية وأنماط التسيير الإداري، ممّا انعكس سلبًا على جمودِ المناخ التنظيمي وضعف الفعالية التنظيمية للمؤسّسات التعليمية، إذ لا يزال قطاع التربية في الجزائر يُسيّر بقوانين وأنظمة إدارية جرى سنها في سياقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ، قد عفا عنها الزمن، وهنا نشير على وجه التحديد إلى القوانين الخاصة بإدارةِ الموارد البشرية، فأغلبها موروث عن الحقبة الاشتراكية، ولم يجر تحيينها لتتكيّف مع تحدّيات العصر ومتطلّباته، ولتساير التطوّر الحاصل في المفاهيم الحديثة للتسيير، كالجودة الشاملة في التعليم، وتنمية الموارد البشرية، وإدارة المعرفة، وأنظمة التحفيز الوظيفي، وتسيير الكفاءات وإدارة المعرفة، ومهارات القيادة الإدارية وفعاليّة الاتصال المؤسّسي.
ففي زمنِ التكنولوجيات الاتصالية والرقمية، تتنافسُ الدول والمجتمعات على معايير الجودة والتحديث المستمر، فيما لا يزال قطاع التربية في الجزائر يسير بمنطقٍ إداريٍّ جامدٍ، ويفتقد للمرونة والديناميكية اللازمة التي تتطلّبها التنظيمات المعاصرة، وهذا النمط من التسيير تتسم به أغلب مؤسسات التربية من القمّة إلى القاعدة، وهو ما حرمها من الفعاليةِ التنظيمية والتنافسية والإبداع والمرونة والحركية اللازمة لتحقيق تطلعاتِ مجتمع المعرفة والمعلومات وتطوير الأداء المؤسّسي لمؤسساتِ التعليم، فهذه النظم الإدارية أضحت عديمة الجدوى في القرن الواحد والعشرين، الذي يتطلّب مهارات فائقة في إدارة تكنولوجيات الاتصال والإعلام، وإدارة الأزمات والتشاركية في التسيير وصناعة القرار، والتحديث المستمر للحياة الوظيفية والسرعة والفعالية والمرونة في معالجةِ المشكلات.
لا يزال قطاع التربية في الجزائر يسير بمنطق إداري جامد ويفتقد للمرونة والديناميكية اللازمة التي تتطلّبها التنظيمات المعاصرة
لقد كان من نتائج جمود المناخ التنظيمي للمؤسّسات التعليمية انتشار العديد من المظاهر السلبية، ومن أبرزها الفتور ورتابة المناخ التنظيمي، وكثرة مظاهر التذمّر والفساد الوظيفي ودوران العمل (التغيير المستمر لمكان العمل) ممّا أدى إلى غياب الاستقرار الوظيفي، وسوء التسيير الإداري، بسبب ضعف التكوين في مهاراتِ ومبادئ القيادة الإدارية، وتردّي المكانة الاجتماعية للأستاذ، وظروف عمل غير وظيفية ومريحة ومحفّزة للأستاذ وللإداري، وضعف نظام متابعة وتسيير المسار الوظيفي للموارد البشرية من حيث: الانتقاء والتوظيف، التوصيف الوظيفي، تقييم الأداء، الترقية، التدريب والتكوين، أنظمة التحفيز، المنح والتعويضات، الامتيازات الوظيفية، الخدمات الاجتماعية، التقاعد. وكل هذا أدى إلى عدم استقرار القطاع وكثرةِ الإضرابات والاحتجاجات بنسبةٍ قياسية مقارنة ببقية القطاعات.
ومن ناحيةٍ أخرى؛ فإنّ التوظيف في قطاع التربية والتعليم لا يخضع لمعايير تفاضلية في انتقاء المترشحين الأكفاء، مما أدّى إلى تسرب الكثيرين ممّن ليسوا أهلًا للتدريس إليه، وممّن لا يملكون استعدادات أولية وكفاءة قاعدية من حيث الاقتدار المعرفي والمعايير الأخلاقية، وهو ما أثّر بشكلٍ كبير بجودة التعليم، وتسبّب في انتشار العديد من المظاهر السلبية التي تتنافى مع أخلاقيات العمل، وهذا راجع إلى اعتبار التعليم قطاعًا عموميًّا، مهمته الأساسية هي ضمان الحدّ الضروري من الخدمة العمومية وامتصاص البطالة، من دون إقامة اعتبار لقدسية رسالته وتميّزه عن باقي القطاعات، فالخطأ في صناعة الآلة يمكن استدراكه، أمّا الخطأ في بناءِ الإنسان فلا يمكن استدراكه أو تلافي آثاره الوخيمة.
الخطأ في صناعة الآلة يمكن استدراكه، أمّا الخطأ في بناء الإنسان فلا يمكن استدراكه أو تلافي آثاره الوخيمة
وعليه، فإنّنا نرى من الضروري، ولأجل ضمان نظام جودة التعليم، أن يحظى بتنظيمٍ قانوني مستقل عن الوظيفة العمومية، نظرًا لعدّة اعتباراتٍ موضوعيّةٍ ترتبط بخصوصيّة دوره الاستراتيجي، فالتعليم هو بمثابة مورد خلّاق لرأس المال البشري، وهو يصدِّر لجميع القطاعات كافة احتياجاتها من الموارد البشرية المؤهلة، معرفيًّا ومهاريًّا، وأيّ خللٍ في منتوجه، سيؤثّر لزامًا بأداء مؤسسات الدولة، كما أنّه يرتكز أساسًا على المعرفةِ، بحثًا وتنظيمًا وتعليمًا، وهي بطبيعتها متجدّدة، وتشهد نموًا مستمرًّا وتنافسيةً عالية، ولأجل استيعاب التدفقات المعرفية المتسارعة، لا بدّ من العمل على التطوير المستمّر للمهاراتِ والكفاءات التعليمية، وتحفيز الأساتذة على التنافس والنمو الوظيفي، وطبيعة قوانين الوظيفية العمومية تمنع من هذه المزايا أو تحدّ منها، بسبب تسويتها بين جميع الموظفين في كلّ القطاعات الإدارية والاقتصاديّة والتعليميّة والصحيّة بقانونٍ جامع، ولضعف أنظمة التحفيز، ومحدودية مجالاتِ الإبداع الوظيفي فيها، سواء للإداري أو البيداغوجي (أصول وأساليب التدريس).