عندما كان هناك فصل اسمه الخريف
ربّما قد سمعت عن عاصفةٍ أُطلقَ عليها اسم "نيلسون" ضربت في الأيامِ القليلةِ الماضيةِ غرب أوروبا، بدأت من بريطانيا وعطلت شبكةَ السكة الحديدية وألغت الرحلات الجوية، كما قطعت الكهرباء عن آلاف المنازل، وأوقعت ضحايا في عددٍ من الدول. وأيضًا، أفسدت على الأوروبيين فرحة عطلة عيد الفصح، وخلقت جوّا من الرعب وحالة قصوى من التأهب، ثمّ راحت تعبث بسواحل المغرب وأجوائه الشمالية، مسببةً طقسًا رديئًا، سيئًا، دام أكثر من يومين.
إلى اليوم، أكتب وزخات المطر المصحوبة بالرياح القوية تلطمُ زجاج النافذة دون كللٍ. إنّها آخر ما تبقى من روح العاصفة. بعضُ التنبؤات المزعجة تقول إنّ "نيلسون" لن تكون الأخيرة؛ ففي الأفق شقيقات أخريات من الممكن أن يرقصن رقصتهنّ الهائجة في الأيام المقبلة من فصل الرّبيع. مجرّد تخيّل حدوث ذلك يدفعني إلى المزيدِ من القلق، ليسَ لأنّني مللتُ طقسَ الشتاء المُمل، بل لأنّنا في فصل تفتّح الزهور، واندلاع الفراشات وهدوء الطقس. لست أنزعج من المطر، ولا الغيوم الداكنة الثقيلة، بل من تَخَيُّلِ العواصف السوداء في قلب الربيع. ومن حالةِ التلبّد الذهني إزاء طقس ملتبس كهذا؛ والذي أصبحنا نعاني منه في السنوات الأخيرة، لم تعد الفصول متباينة بالقدر الذي تُلطّف معها الدماغ وتُهيّئ فيه الجسم للتغيّرات الفيزيولوجية، وحتى العاطفية. بالأمس كان حلول أيّ فصل بالنسبة لنا بمثابةِ احتفال، نشرئب فيه بدافعٍ مجهولٍ إلى الفرح، وذلك عكس ما هو عليه حالنا اليوم، ولذا كلّما كان الحديث مع أصدقائي عن الطقس لا أتحرّج من طرحِ سؤالٍ غريبٍ كهذا: متى آخر مرّة شعرتم فيها بفصل الخريف؟
لم يكن السؤال مستغربًا على الإطلاق؛ هم أيضًا لا يعرفون على وجهِ اليقين، إن كانوا قد عاشوا الخريف كما يجب، أو سيعيشون الربيع كما ينبغي. ربّما قصرت ساعات النهار وطالت ساعات الليل. انخفضت درجة الحرارة في الشتاء، بينما بقيت في المتوسط من الخريف مرتفعة. ففي السنتين الأخيرتين مرّت أيام كلّها صيف، وبعضها شتاء. أحيانًا، يُخيّل إلينا أنّ الأسبوع الواحد تداخل فيه الفصلان معا. بدوري أشكُّ إن كان هذا هو الخريف حقًا، كما تقول التقاويم، وأتساءل في استياء وحيرة: لماذا لم أشعر به مثل ما كنت في الماضي؛ برياحه التي تكنس الأوراق الذهبية، ورائحته الخفيّة في تلك الساعة الفارقة حيث "ينهار الصيف في الخريف" بتعبير أوسكار وايلد. رائحة كنّا نشمّها في الهواء (ونحن أطفال) كالعجول الصغيرة؟
الخريف فصلٌ يبعث على فرحٍ الانبعاث والتجدّد، على الحلم والتأمّل
الإجابة عن هذا السؤال المحيّر والمحزن ليست سارّة على الإطلاق، إذ يكشف تقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية عن قلقٍ متزايدٍ بشأن التحوّلات التي يعرفها المناخ. فخريف سنة 2023 كان مختلفًا عن السنوات الماضية بسبب ظاهرة النينيو، حيث استمر مناخ فصل الصيف خلال الخريف، وقد سُجِّلت فيه درجات حرارة أكثر من المعتاد. وبسببِ الظواهرِ المناخية والتغيّرات الجوية، أصبح عدد من المناطق في العالم يعيش على إيقاع فصلين فقط: الصيف والشتاء. كما أنّ أوراق الأشجار المسكينة أضحت تتساقط في فصل الصيف، لأنّ موجة الحرارة التي نعيشها في فصل الربيع تُعرقل نمو الأوراق في دورتها الكاملة، ناهيك عن تلف 25 في المائة من الأراضي المزروعة على مستوى العالم. وهناك أيضًا مسألة اختلال الحياة البيولوجية لمجموعة من الحشرات، لذلك أضحى انتشارها ملحوظًا في بعض الضواحي والمدن.
وفي ذات التقرير المصاب بالذهول من ارتفاع درجة الحرارة في السنة الماضية، ثمّة وصف لهذه الحالة بكلمات صادمة: "خارج عن المألوف". والتي تعني بعبارة أخرى "ما شهدنا ولا آباؤنا بمثل هذا أبدا". كما تمكن قراءتها أيضًا، وبشكلٍ صريح، كإنذارٍ أحمر من الكوكب، إنذار غير متوّقع بهذه السرعة. لقد ارتفعت حرارة المحيطات والأنهار الجليدية؛ وثمّة خسارة غير مسبوقة للجليد البحري في القطب الجنوبي أيضا، والمُسبّب الرئيسي لهذا الاحتباس الحراري (كما نعلم) هو الغازات الدفيئة، أي الزيادة الحادة في ثاني أوكسيد الكربون وأكسيد النيتروز (غاز الضحك) والميثان. ونتيجة للعمر الطويل لثاني أكسيد الكربون، من المؤكد أنّ درجة الحرارة ستستمرّ في الارتفاع لسنواتٍ عديدة قادمة.
لقد دقّ ناقوس الرّعب، وبسبب هذه التغيّرات المناخية ربّما، مرّ عام هنا، بلا خريف تقريبًا. الأمر يدعو للرثاء حقا، رثاء يذكيه التوّجس من عاصفةٍ شتويةٍ في الربيع، تسلّمنا بلا فاصل الفراشات إلى صيف حارق. لكن، ما أنا متأكد منه حتى الآن، أنّه لم يكن هنا من خريف هذا العام، وأخشى ألّا يعود في أيّ عام آخر. فإذا فقدنا الخريف، فقدنا الحياة كما نعرف. فقدنا تلك السعادة الغامرة، التي عبّرت عنها الكاتبة الكندية لوسي مود مونتغمري، حين رقصت كلماتها على هذا النحو: "أنا سعيدة جدّاً لأنني أعيش في عالم يوجد فيه شهر أكتوبر". فالخريف فصلٌ يبعثُ على فرحِ الانبعاث والتجدّد، على الحلم والتأمل. ومعه أشعر شخصيًا بحافزٍ كبيرٍ على الكتابة. إنّه "موسم الروح" كما وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. موسم للإلهام والإبداع، كما رآه الرسام الهولندي فان خوخ، وقد قال في يومٍ من أيام الخريف من فرط الحماس: "طالما استمرّ الخريف، لن يكون لديّ ما يكفي من الأيدي والقماش والألوان لرسم الأشياء الجميلة التي أراها".
لست أصدّق أنّنا في طريقنا إلى فقدان أحد أجمل الفصول، ذلك أشبه بكابوس. شيءٌ مرعب. ليت كلّ هذا الكلام مجرّد إحساس كاذب، ليته كذلك. مع أنّه من الصعب تخيّل أنّ كومة من تلك التقارير الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية هي شيء ثقيل من المزاح أو نزعة سوداوية من الدعابة.