عمر حجو والكوميديا

18 ابريل 2020
+ الخط -
تضمن الحديث السابق عن الفنان الراحل عمر حجو فكرة أساسية، مفادها أنه كان يرى الكوميديا كامنةً فيما يجري أمامه من تصرفات بشرية.. أضف إلى أنه كان يصنع الكوميديا بتصرفاته الغريبة حينما كان طفلاً. أخبرني، ضمن حديثي معه الذي لم ينشر سنة 2009، أن أسرته كانت تسافر صيفاً من حلب إلى إدلب، بالسيارة، ومن إدلب إلى قريتهم الجبلية "دركوش" على ظهور البغال مع "المكارية"، ويقيمون هناك في منزل جده عدة أسابيع، وكانت جدته "كاحلة"، أي طبيبة عيون شعبية.

من طرائف الأيام الدركوشية أن الفتى عمر، مثله مثل معظم الفتيان، كان يرتدي قمبازاً على (الزلط)، أي لا يوجد تحته أي قميص أو سروال، وكان يتعمشق إلى شجرة الجوز، ويقطف منها بضع جوزات، يكسرها بالحجارة ويستخرج لُبَّها، ثم يتعمشق إلى شجرة التين ويقطف بضع تينات ويحشوها بالجوز ويأكلها. ومن فرط ما لوث يديه ووجهه بغبار الجوز ودبق التين رمدت عيناه، فاقتربت منه الجدة الحكيمة، تريد أن تكحل عينيه لتعالجهما من الرمد، فركض خطوات باتجاه النهر، وأمسك بطرف القمباز، ونتره نترة واحدة، فأصبح خارج جسمه، ورمى بجسمه العاري في النهر وهو يقول لجدته: إذا كنتِ سباحة شاطرة الحقيني!

انتسب الفنان عمر في مطلع حياته إلى "نادي الأخوة الرياضي"، وكان يشارك مع زملائه في النادي بإحياء حفلات سمر، ويقدمون أشياء مضحكة. وكانت العادة في تلك الأيام أن يقدم المسرحُ أعمالاً تراجيدية تُبكي الحجر الأصم، وفي الختام يقدم فصلاً كوميدياً قصيراً، وكان الناس يتفرجون على المسرحية المُبكية على مضض، ويدعون الله في سرائرهم أن تنتهي ويأتي دور الفصل الكوميدي لكي يروحوا عن أنفسهم، ويبلّوا قلوبهم بضحكة أو ابتسامة. 

بدأ عمر هواية التمثيل المسرحي والإذاعي في سنة 1949، مع الفنان عبد الغفور صابوني، ثم مع عبد المنعم سبير الذي ألف معه في سنة 1956 مسرحية مشتركة بعنوان "استعمار في العصفورية"، من شخصياتها الوزير البريطاني "إيدن" والوزير الفرنسي جيمولييه والصهيونيان بن غوريون وغولدامائير، وقد لعب عمر حجو دور "إيدن".. 

في تلك الفترة تأثر عمر حجو بالأفكار الماركسية، وأصبح صديقاً لنبيه ارشيدات وعبد الله سيريس اللذين أخذا يشحنانه بالأفكار الثورية، ويدفعانه إلى اعتبار الحارات الشعبية منهلاً ثرياً للعمل الفني. وأطلعاه في إحدى السهرات على فيلم بلغاري يتحدث عن فرقة مسرحية كانت تخترق الحاجز الأمني النازي وتصل إلى الناس في الأرياف وتعرض عليهم الأفكار الثورية الاشتراكية ضمن سياق فني مسرحي. بعد النجاح الباهر للعرض الكوميدي "الاستعمار في العصفورية" جلس عمر مع عبد المنعم سبير وكتبا مسرحية "مبدأ إيزنهاور" عالجا فيها مبدأ الرئيس الأميركي ايزنهاور الذي دعا إلى التواجد الأميركي في سورية (ومنطقة الشرق الأوسط) لمنع التغلغل الشيوعي إليها، وملء الفراغ الذي خلفته بريطانيا وفرنسا اللتان انسحبتا من المنطقة بعد الحرب. وقد شارك في هذا العمل خيرة كوميديي حلب في تلك الآونة كمحمد الطرقجي ونديم شراباتي وأحمد عداس ومحمد قصير الذيل إضافة إلى عمر حجو.

سنة 1957 دعا عمر حجو إلى تشكيل "المسرح الشعبي"، وتم ذلك، وقدم هذا المسرحُ منوعات كوميدية كانت معظمها من تأليف عمر حجو أو من سيل أفكاره الكوميدية المتدفق. وكانت الرقابة في تلك الأيام تقتصر على رقابة الأمن السياسي، وكان ثمة "ضابط صف" برتبة مساعد يتولى هذا العمل. ولأن "حضرة المساعد" كان يتدخل في الشاردة والواردة فقد خطرت لعمر حجو فكرة جهنمية، وهي أن تتحول الفصول التي تقدمها الفرقة إلى ما يسمى بالمسرح الإيمائي "البانتوميم". ههنا أصبحت العلاقة مع الرقابة مضحكة، فقد كانوا يرسلون إليهم عبارة تنص على:

يرجى الموافقة على تقديم نص مسرحي من دون حوار على خشبة المسرح الشعبي!

فتأتي الموافقة بسرعة!

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...