صناعة الوعي الرقمي... امتداد لنظرية "غوبلز"
الجماهير مجنونة بطبيعتها، ونعني تلك الجماهير التي تُصفّق وتصرخ بحماسة شديدة لمطربها المُفضّل، أو للفريق الرياضي الذي تؤيده، فتعيش بذلك لحظة هلوسة وجنون.
والجماهير التي تصطف على جانبي الطريق لساعاتٍ طويلة لكي تشهد من بعيد على مرور شخصية مشهورة، أو زعيم سياسي للحظات خاطفة، هي مجنونة. والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنّه هو المذنب هي مجنونة أيضاً. فإذا اعتنقت الجماهير أفكاراً أو آمنت برجل ما، تبعته حتّى الموت!
ومما لا شك فيه أنّ للجماهير دورا أساسيا في تغيير عجلة التاريخ، فضلاً عن الدور الأهم الذي تلعبه في عصرنا الحالي. علماً أنّ الثورة الاتصالية الهائلة غيّرت بعض الشيء من شروط الحشد وتعريفه، وأوجدت ساحات أقوى وأكثر تأثيراً في إطار عالم مركزي، هو التكنولوجيا. وبغضّ النظر عن الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تشكيل الحشد والجماعات وتمركزها، فإنّ الآراء الموّحدة هي جماهير قابلة للتحقّق، والنقمة من حدث أو ظاهرة ما، هي جماهير متّفقة على المكان، حتى إن لم يكن جغرافياً. فمن يستطع السيطرة على الجماهير يستطع أن يفعل ما يريد، وحتى لو كان على خطأ، فسيبقى يسمع تصفيق الجماهير.
إذا اعتنقت الجماهير أفكاراً أو آمنت برجل ما، تبعته حتّى الموت!
ولعلّ حكم الزعيم النازي، أدولف هتلر، في ألمانيا مثلاً، كان من أكثر الأمثلة التي تُظهر توظيف الدعاية واستثمار وسائل الإعلام لإخضاع الجماهير. لم يكن هتلر وحده في ذلك، فقد عيّن أحد أدهى العقول، وهو الدكتور، جوزف غوبلز، ليكون وزيراً للدعاية السياسية، والذي كان دارساً بصورة كبيرة لنفسية الجماهير، حيث اعتبره البعض مؤسّس مدرسة إعلامية مستقلة بذاتها، وذلك بعدما استطاع أن يروّج الفكر النازي بقوة، وفي شعاع جغرافي واسع، فيما أصبح في وقت لاحق مدرسة يلجأ إليها الكثير من الخبراء والسياسيين لتنظيم التجمّعات التي يكون الحكم فيها عسكرياً.
لقد كان "غوبلز" من أبرز الذين وظفوا وسائل الإعلام في الحرب، إذ أكّد بمنهجيته أنّ من يملك وسائل الإعلام هو الذي يملك القدرة على الحكم والسيطرة على الجماهير حتّى لو كانت الظروف غير مؤاتية لصالحه. استند "غوبلز" إلى عدّة مبادئ لتنفيذ استراتجيته التي شكّلت جزءاً أساسياً منها القواعد السيكولوجية التي وضعها الفرنسي غوستاف لوبون.
وكان غوبلز يقوم بالتحكّم في كلّ مصادر الأخبار لضمان ما يتلقّاه القارئ، إذ كان يقوم بتصنيف الأخبار ليحدّد ما سيتم عرضه على الجمهور وما سيلازمها (الأخبار) من تحريضات، وبعدها يُقيّم نتائجها والتغذية الراجعة من الجمهور ليبني عليها في ما بعد، لناحية تحديد العناصر الأكثر استقطاباً في إخضاع عقول الجماهير. كما اعتمد أسلوب التكرار، والذي يُعتبر من أهم أساليب الدعاية، لأنّ التكرار للشيء كما يقول غوستاف لوبون "ينتهي في تلك الزاوية العميقة للّاوعي، حيث تصنع دوافع أعمالنا، فمع مرور الوقت ننسى من هو مؤلّف القول المكرّر وينتهي إلى حدّ الإيمان به". تدخل ضمن هذه الاستراتيجيات أيضاً، إشباع الفرد بنظرية المؤامرة، وأنّه دائماً مُعرّض للخطر والإلغاء، وأنّ أي تغيير أو معارضة للحكم والسياسات هي مؤامرات خارجية تستهدف الوطن والأمة.
استراتيجيات وزير الدعاية النازي "غوبلز"، لم تنتهِ مفاعليها مع سقوط الشعار النازي، بل هي مدرسة مستمرة عبر التاريخ
نستخلص من ذلك، ولو بشكل موجز، أنّ أحد أهم فروع استراتيجات "غوبلز" للسيطرة على الجماهير، يتمثّل بدور وسائل الإعلام ومركزيتها وأهميتها في عملية السيطرة على الجماهير. واليوم مع التطوّر التكنولوجي وصعود تأثير الإعلام الرقمي حول العالم، تأتي الأخيرة لتشكّل في كثير من الأحيان، امتداداً لوسائل إعلام تقليدية، سواء كانت رسمية حكومية أو مستقلة.
تتركز الجهود في الأنظمة الشمولية على اعتماد نظرية "غوبلز"، عبر توظيف الإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية لتحقيق استراتيجية السيطرة. وهذا ما نشهده في الوقت الراهن على المنصّات التواصلية من خلال أداء جماهير بعض الأنظمة والأحزاب الشمولية، إذ تنقاد بشكل جنوني وفقاً لأفكار القادة وتوّجهاتها، ولا تتقبّل أيّ رأي معارض، وكلّ من يقف في وجه أفكارها، أو حتّى من يعرض رأيه للحوار لمناقشة توّجهاتها سيكون عرضة للذبح الرقمي.
استراتيجيات "غوبلز" لم تنتهِ مفاعليها مع سقوط الشعار النازي، بل هي مدرسة مستمرة عبر التاريخ، ويتم تحديثها عبر القادة السياسيين الذين يتبعون النهج الشمولي نفسه مع مراعاة التطوّر التكنولوجي والشبكات الاجتماعية الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي أيضاً!