صباح البطيخ الأحمر في المعسكر
كان صباح اليوم الأخير مميّزاً، حيث أنهينا مهام التدريب القتالي في هذا الفجر العظيم، ومن ثمَّ سيذهب الرفاق كلّ إلى عمله وذاكرته مليئة بحوادث صغيرة، بعضها مفرح، تنشرح الصدور له، وبعضها الآخر حزين تنقبض النفوس من بشاعته.
المهم في الأمر، وكلّه مهم، استيقظنا وكان وجه الفجر لا يزال شاحباً، لم يغسله ندى الصباح بعد، والعتمة تحاول التشبّث بالمدى المفتوح للأعداء والنسيان. ساحة المعسكر واسعة، فسيحة، جرداء، أحرقت الشمس أعشابها، فيبست من أوّل الصيف. ينبسط السهل أمامنا على مدِّ النظر، ملتصقاً بالأفق البعيد، ويظهر الشروق في لحظات الولادة على عجل، حتى العيون الناعسات تُحدِّق بقرص الشمس الوليد دون أن ترفّ لها جفون.
لملمنا أغراضنا المتناثرة في أرض الخيمة، ومن جملتها "بطيخة" بقيت صامدة من مساء أمس، إثر خلاف على وقت أكلها، لأننا في المعسكر لم نتفق أبداً على الوقت الأنسب لأكل البطيخ الأحمر! وبما أنّنا تعلمنا أنّ "الديمقراطية" جيّدة حين تعمل، فقد كان لكلٍّ منَّا رأيه: "البطيخ الأحمر في الصباح يُنعش الروح ويبعث في النفس النشاط والإقبال على الحياة، إنه يُزيل الحزن"، قال أحدهم. ليردّ آخر: "كلا، يا رفاق، عند الظهيرة يطفئ الظمأ ويُشعركم بالطمأنينة والأمان". ثمّ أجابه ثالث "كلُّ هذا غلط، والصحيح، لا يوجد ألذُّ من البطيخ الأحمر وقت الغروب، كأنك تقضم الأفق حتى تعمَّ الظلمة، أرأيتم أروع من ذلك؟".
كانت البطيخة تتمركز قرب الحقائب ومطرات المياه وأشياء شخصية أخرى، تبدو في موقعها كخوذة جندي خضراء في حقل قمح ناضج أصفر. وهنا في هذا الصباح المفعم بالندى والذكريات، خطرت ببالي "غرفة المحارب" التي كتب عنها الشاعر السوري رياض الصالح الحسين قصيدة بديعة في حسنها جاءت في ديوانه الأخير "وعل في الغابة"، إذ يقول:
يتوسد خندقه الرمليّ وحيدًا
ويداه تحيطان برشاشٍ مملوء بالموت
سيأتي الزوّار مساءً
زائرة تحمل للأرض قنابل ضوئية
أُخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتدُّ
سيأتي الأعداء مساءً
كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ
يلتهمون بيوت الطين
وأشجار التفاح
وكرّاسات الأطفال
ورأسَ الجنديّ
الجندي يرتب غرفته الرملية
الماء هنا
والطلقات هناك
وها هي صورة نرجسة تبتسم لجندي
يحملُ رشاشًا وخضارًا
الزوار يجيئون
فأهلاً
يطلق طلقته الأولى
سيظل يقاتل حتى آخر حبّة رمل من هذا الخندق.
قال أحدهم: "أسرعوا يا رفاق، سنهدم الخيمة ونسلّمها لأمين المستودع حتى لا نتأخر عن موعد رحيل الباصات". أجاب آخر: "انتظروا قليلاً كأس الشاي الآن فرصة لا تُفوَّت، لن تهرب الباصات منا". قال آخر وهو يُمسك بعمود الخيمة: "في ما بعد، لا وقت لكأس الشاي الآن". أجاب من يريد أن يُدخن: "لماذا؟ موقد الغاز لا يعمل في العراء! انتظروا أرجوكم، كيف سندخن على الريق، يا الله ما هذه الفوضى التي وصلنا إليها؟".
الخيمة واسعة على حدِّ تعبير أمين المستودع الذي كان يمتدح خيامه وكأنه صانعها، حوت أحد عشر رفيقاً، اجتمعوا بين طيّاتها، بقضهم وقضيضهم، عشرين يوماً، وهي مدة معسكرنا. كيف تقوم الخيمة؟ ثلاثة أعمدة، وبعض حبال الشد، والعديد من الأوتاد، وكم حجر صوّان من هذه البيداء، وتكون جاهزة للنهوض. وها هي الآن قد خُلعتْ أعمدتها الخشبية، فناخت على الأرض، كجمل أنهكه الترحال. سأل أحدهم: "من عنده فكرة عن طي الخيام وتجهيزها للحمل على الأكتاف؟". صاح آخر: "أتظن ولدنا في الصحراء!".
كانت البطيخة تتمركز قرب الحقائب ومطرات المياه وأشياء شخصية أخرى، تبدو في موقعها كخوذة جندي خضراء في حقل قمح ناضج أصفر
صالب الرفاق الأعمدة كيفما اتفق، ثمَّ وضعوا الخيمة مطوية فوق الصليب، والآن يحتاج الصليب الثقيل إلى حمل و"هزّ أكتاف" كما يُقال. ولأنّ مكان أمين المستودع ليس قريباً على كلّ حال، حملها أربعة رفاق كما يُحمل التابوت، وساروا باتجاه المستودع الذي يلوح في الأفق البعيد.
فجأة، بعد رحيلهم، تظهر البطيخة واضحة، فصيحة، كأنها بشرى سارة تنتظر من يفضح أسرارها، منظرها يُشعرنا بسعادة غامرة مع ارتفاع شمس الضُّحى في هذه البيداء المُقفرة. ذكرتني طلتها المُبهجة بمقطع من قصيدة "التساؤلات" من ديوان الشاعر السوري صقر عليشي "قصائد مشرفة على السهل"، والذي كان قد صدر حديثاً:
ما الذي يُخيف البطاطا
كي تخفي رأسها في عتمة الأرض
في حين يستقبلنا البطيخ
مدلاً
بكامل رأسه
من خلال تعاون الرفاق في خيمتنا أيقن الجميع أنها ستبقى سليمة حتى عودتهم. سارت القضية في هذا الاتجاه إلى أن لفت نظري ما يحدث عند خيمة جيراننا من حركة مُريبة، فقد لمحت في نظراتهم وهمساتهم مؤامرة ما. لم تُسعفني سرعة البديهة إلا بعد فوات الأوان، حين أصبحت "البطيخة" الغالية بين أيديهم. قلتُ لسارقها: "أخي أرجوك، ليست المسألة في (بطيخة) ولكن رفاقنا في طريق العودة، انتظروهم على الأقل، دعوا يومنا الأخير يمر على خير".
على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ ذهبت توسلاتي أدراج الرياح، ذُبحت البطيخة على عجل وسال دمها طازجاً، فامتصته التربة العطشى. أكل الجميع، كلّ حسب نصيبه وجشعه، وبين الجد واللعب صارت "البطيخة" في خبر كان. عاد الرفاق بعد تسليم الخيمة وفي عيون كلّ منهم تساؤل، لم يتكلموا، جلسنا نُحدّق في وجوه بعضنا بعضا، تمنيت حينها أن تنشق الأرض وتبلعني. قلتُ: "يا رفاق...". قال أحدهم: "لا تكمل حديثك، لأنّ الأمر مفهوم، كُنّا نحلم في طريق العودة بلب البطيخة الأحمر البارد يُداعب شفاهنا العطشى، وبذلك ننسى تعب المسير". قلتُ: "تعرفون أن بعض رفاق المعسكر بعفوية وغشم أحياناً يتصرفون ...". ولكن من الصعب الاستمرار في الحديث على هذا المنوال، فقد بدأ الغم يجد طريقاً إلى النفوس البشرية التوَّاقة دائماً إلى الفهم والمعرفة.
ترك الأشياء المألوفة، بقعة أرض، صخرة، جذع شجرة، أو حتى درب نمل كان يمرُّ قريباً من خيمتنا، يُشعركَ بوحشة الفراق
الشمس تسير بخطّ صاعد نحو قبّة السماء (نحن في شهر آب/ أغسطس اللهاب)، ينعكس نورها الوهاج على الأحجار المبعثرة، بين أحجار الصوان الصغيرة... ثمّ فجأة (وما أجمل كلمة "فجأة" هذه)، لمحت ساق نبتة ضعيفة تحمل أوراقاً خضراء أنِست برطوبة التربة بمحاذاة الخيمة. يا لها من مصادفة مفرحة، لقد انتشت بعض بزور البطيخة التي كسرناها في أول أيام المعسكر، وها هو الساق بعد عشرين يوماً يتشبث بالبزرة حاملاً معه ورقة خضراء زاهية مرتجفة، يُحاول جاهداً أن يجد مكاناً، ولو صغيراً، في هذا العالم.
ترك الأشياء المألوفة، بقعة أرض، صخرة، جذع شجرة، أو حتى درب نمل كان يمرُّ قريباً من خيمتنا، يُشعركَ بوحشة الفراق، قبل برهة كانت حماسة الرحيل تطغى على مشاعر الرفاق، والآن حان الأوان، وها نحن نستجمع في مخيلتنا أكبر عدد من صور المكان، قبل أن يهرب منّا. لا حيلة في اليد، لا بدّ من الوداع الأخير، سرنا مع الشمس في رتل باتجاه ساحة المعسكر، لننتظر الباصات.