بقايا كلام في جمهوريّات العسكر
في مشهدٍ قصير، ولكنّه مُعبّر، من فيلم "الإرهاب والكباب"، والذي عُرِض لأوّل مرّة في عام 1992، يقدّم الفنان المصري القدير عبد العظيم عبد الحق خُلاصة تجربة حياةٍ قلقةٍ يعيشها المواطن في دول العسكر. ففي الحافلة المُتخمة بالركاب والذاهبة إلى مُجمّع التحرير في وسط القاهرة، يسأل عادل إمام الواقف في الحافلة عبد العظيم عبد الحق الجالس، والذي يمثّل دورَ عجوزٍ مصري يقرأ الجريدة الصباحية في هذا الزحام:
- من كم سنة وأنت تقرأ هذا الكلام في الجريدة يا عم؟
- من سنين طويلة يا ابني، قرأتُ الجريدة وأنا تلميذ، وقرأتها وأنا في الجامعة، وقرأتها وأنا موظّف، وقرأتها وأنا عازب، وقرأتها وأنا متزوج وعندي عيال، وقرأتها وأنا في كامل صحتي، وقرأتها - بعيد عنك وعن السامعين - وأنا عندي المرارة، وكلّه كلام، كلام يا ابني كلام.
يسأل عادل إمام مستغرباً:
- لماذا تشتري الجريدة إذن؟
- مرض، والعياذ بالله.
- ما في حاجة ح ترخص؟
ينهضُ العجوز ويهم بمغادرةِ الحافلة، وهو يصيحُ في الركاب:
- حاجات كثيرة ح ترخص وتبقى بسعر التراب أنا وأنت والأستاذ والمدام وحضراتهم أجمعين. وسّع يا سيدي وسّع، وسّع يا أخي، وسّعي يا مدام، ما توقفيش بالعرض في الأوتوبيس، الوقوف لازم يبقى ورب.
يضحك ركاب الحافلة بصوتٍ مُجلجلٍ، فيقول لهم:
- يا سلام، عجبتكم الهيافة، ولو في حاجة جد يبقى بوزكم شبرين، جتكم بلاوي فيكم وفي أيّامكم السود، وسّع يا سيدي، يا بتوع مصيرها ح تفرج، وسّع، قزازة الكازوزة مرتاحة في صندوقها أكثر منكم، وسّع، ولو حدا ضغط عليها تفرقع.
ما الذي منع ويمنع تحوّل دول العسكر إلى دولٍ يحكمها القانون؟
يردّ أحد الركاب ضاحكاً:
- أصلها مضغوطة غاز.
- وحضراتكم مضغوطين إيه؟ لبن رائب. سلطات، جبنة قريش. يا جبنا، صوتكم ما يعلاش إلا في الفارغة، خليكم في اللي أنتو فيه، ربّوا العيال، وروّقوا نفسكم ليلة الخميس، ويوم الجمعة توضوا وروحوا صلوا، وكفاية عليكم الدعاء وراء الإمام.
ينتهي المشهد بنزولِ العجوز عبد العظيم عبد الحق من باب الحافلة وهو يقول للركاب: جتكم ستين نيلة. ويسير في الشارع ملوحاً بيديه، متمتماً، شاتماً هذا الزمن الأغبر. وأعتقد من وجهةِ نظرٍ شخصيّة أنّ الفيلم من أفضل ما قَدّم عادل إمام، وهو من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة. وعلى فكرة، منذ سنة أو أكثر، شاهدَ قائد العسكر في مصر، عبد الفتاح السيسي، فيلم "الإرهاب والكباب" على أحد القنوات المصريّة، فتعكَّر مزاجه، وحكى عنه كلاماً حاداً، ناقداً مضمونه بشدّة، لأنّه يحطّ من هيبةِ دولة العسكر، على حدِّ زعمه.
يعرضُ الفيلم صورةً بليغةً ومؤثّرة عن حال الشعوب في جمهوريّات العسكر، والتي فشلت فشلاً ذريعاً في تأمين الحدِّ الأدنى من الأمن والأمان والصحة والتعليم والغذاء للمواطن، فصار يحلم بأكلة كباب من العيد للعيد. وهذه مفارقة عجيبة غريبة في دلالتها؛ أن يفشل العسكر في تأمينِ الاستقرار المعيشي لهذه الشعوب "المُبتلاة" بحكمهم. والمُضحك المبكي أنّ شغل العسكر في الأساس حماية المواطن وتأمين العيش الكريم له، والذي عاش مرغماً في جمهوريات العسكر، وصبر ولم يُهاجر.
تعال معي الآن وتأمّل وجه المواطن العربي الذي يعيشُ في جمهوريّات العسكر اليوم: سورية، العراق، لبنان، فلسطين، مصر، السودان، الصومال، تونس، ليبيا، الجزائر، اليمن الذي كان سعيداً، ستجد في عينيه حزناً لا يكفي قرن من البكاء لمحو آثاره، وهذا الحزنُ يظهرُ جليّاً في تفاصيل حياته اليوميّة. ويحضرني في هذا السياق الشاعر السوري البديع بركات لطيف (رحمه الله)، والذي توقف عن كتابةِ الشعر المُباح بسبب جمهوريّة العسكر، وقد كان سائقاً لقطار درعا - دمشق أعواماً وأعواماً. قال في مقدّمة ديوانه الثاني والأخير (أوراق الليمون) الصادر عام 1980 عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية:
الشعر ثقيل الظلّ
عندما نكتبه بين الآلات
وفي البيت تُحطّم أوزانه
طلبات الأطفال
والكلمات ترفض احتواء الأحزان
فهل يكفي يوم من عام
لنفرغ فيه قرناً من البكاء؟!
والسؤال الذي يلحُّ في الخاطر الآن: ما الذي منع ويمنع تحوّل دول العسكر إلى دولٍ يحكمها القانون؟ وعلى العكس من ذلك، تحوَّلت في معظمها إلى دولٍ تحكمها الأجهزة الأمنية بفظاظةٍ مفرطة. هل يا ترى لأنّ "المؤسّسة العسكرية" هي الوحيدة المنظّمة في شكلها العام أمام مؤسّسات الدولة الأخرى، وبالتالي من حقّها (الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات) أن تقود الدولة والمجتمع؟
والسؤال من جديد: لماذا لم تستطع جمهوريات العسكر التي وُلِدت بعد حقبة الانتداب الغربي في الوطن العربي أن تفرز سلطةً سياسيّةً دستوريّةً قانونيّةً تقود الدولة والمجتمع إلى برِّ الأمان، بل أفرزت سلطةً عسكريّة يقودها مجلس قيادة الثورة، ومن ثمَّ الزعيم الخالد مع حزبه القائد، الذي يسعى لتوريث الحكم إلى أولاده من بعده في جمهوريات العسكر، وهذه الظاهرة غريبة، ولكنّها واقع معاش، وتستحق منا التأمّل والبحث والدراسة.