شعبوية المسؤول السابق: نموذج ممدوح العبادي
في خضم اكتساح الشعبوية للشارع الأردني، وانعكاسات ذلك على الثقة بين الحكومة والمواطنين، تنبري أصوات لها ثقلها، العشائري، والاعتباري، لتزيد من منسوب المعلومات المغلوطة، ولتربك المشهد العام برمته، وذلك أملاً بتحقيق جماهرية ما، أو لخلط الأوراق على بعض الجهات الرسمية، لا سيما مع "أزمة المعلومات" في الأردن، وتعطش الجمهور لأي حديث يخفف من حدة الأزمات المتلاحقة، حتى لو كان هذا الحديث يداعب غرائزهم، ولا يغني عن الحقيقة.
وهذه الأصوات من المسؤولين السابقين لا يقتصر حديثها على معلومة ما، أو على أمر يحتاج إلى توضيح، ولا تتحدث بضرورة مواجهة "الحالة السوداوية"، والتي باتت تشكل سمة عامة للمجتمع، بل يذهب حديثها إلى تحميل "الدولة" كافة أخطاء وكوارث "المئوية الأولى"، من دون القدرة على تبيان دور "الثقافة الجمعية" بما آلت إليه الأمور، سواء بتعزيز التفاوت بين المستويات الاجتماعية، أو المساهمة في انتشار "ثقافة الشللية".
وفي مرحلة متطورة، تعزز هذه الأصوات المتمردة، وبشكل مستمر، حالة التشكك في صوابية القرارات السيادية، مما يخرج الدولة من إطار "الوطني" ويحولها إلى "تيار طارئ" يمارس الظلم باستمرار. والدليل على ذلك زيادة محتوى التحليلات (ذات النسق المؤامراتي) و"التعليقات" و"الهشتاغات"، ضمن سياقات متصلبة، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار المعلومات المضللة، والتي يصعب تفنيدها بسهولة، خاصة إذا صدرت من جهات لها باع طويل في العمل الرسمي.
مثلت تصريحات ممدوح العبادي، المسؤول السابق، محاولة جديدة لإثارة الشغب، وأخذ الأضواء تجاهه، لا سيما مع تراجع "طعم" المسؤولية لديه؛ فهو لا يحبذ أن يوضع على الرف، ولكنه، في الوقت نفسه، يسعى لتسجيل مواقف سياسية. ومع الإقرار بأحقية سعيه هذا، فإن ذلك يجب أن يتوافق مع صدقية ومنطقية ما يطرحه في الفضاءات العامة؛ فاعتراضه، مثلاً، على عمل "التيار التحديثي"، ووصفه بأنه "استشراقي"، وبأن هذا التيار "لا يفهم وضع البلد"، يتنافى كلياً مع مطالبه السابقة بضرورة التحديث السياسي، لا سيما أثناء عمله الرسمي. ولا ندري، ربما يقصد الرجل بالتحديث عدم الاقتراب من المكاسب التي حققها، خصوصاً أنه يؤيد المحافظة على التقاليد المعززة للتراتبية الاجتماعية، والتي لا يقبل استبدالها بمنظومة قيمية تكرس مبدأ المساواة بين المواطنين، مهما كانت توجهاتهم أو أصولهم، ولذلك يصف من يحاول التغيير بأنه "مستشرق" لا يفهم "الخصوصية الأردنية"، التي تشتمل على "مفاهيم قبلية" لا ترغب بأي تغيير.
ولأن الدول دائمة التحديث، ولأن التغيير هو الثابت الوحيد، كانت الدولة الأردنية مجبرة على تأييد الرؤى التجديدية، وما تمثله من قوانين تتفق مع "القيم العالمية"، مثل قانون المرأة والطفل، وقانون الأحزاب والحياة السياسية، وعليه لا يمكن الاستمرار بذات العقلية في إدارة الحكم، أو كما يتمنى العبادي، وذلك لتزايد خطورة هذا التوجه على تماسك الدولة نفسه. والدليل يمكن ملاحظته في بروز نزعة "الهويات الفرعية" في الجامعات، والمدارس، والمراكز الحكومية، وعلى منصات التواصل، حيث تمثل "الخصوصية الثقافية"، كما يتصورها العبادي، المركز الأساسي لهذه النزعة.
لا يتوقف اعتراض العبادي تجاه الدولة، بوصفها تحتاج إلى تغيير يعزز مكانتها، وينمي قدراتها، إلا بمواصلة حملة التشكيك في المنظومة السياسية بكاملها؛ إذ اتهم جهات لم يسمها بأنها تعمل على "هندسة الأحزاب"، وعلى التدخل بالانتخابات. ويتمحور تصوره عن "العملية الديمقراطية" بأن تكون مفتوحة للجميع، وأن تقبل بأي مشروع، مهما كانت أضراره، فذلك، بنظره، ليس مهماً.
ربما لا يعلم العبادي أن الانتخابات لا تعني "شرعية الصندوق" فقط، بل تعني وجود بيروقراطية قوية، قادرة على كبح جماح أية جماعة تسعى للتشبث بالسلطة، أو تغرر بالشعب من منطلقات خطابية، أو تمارس الإقصاء والتمييز تجاه الآخر؛ فمهمة الدولة هي الحفاظ على تماسك المؤسسات من أي اختراق شعبوي، داخلي أو خارجي، لا سيما أن التجارب السابقة أثبتت أن الديمقراطيات غير المحصنة يكون من السهل اختراقها وتفتيت مؤسساتها. أما اليوم، ومع وجود "مجلس الأمن القومي الأردني"، فإن "الحواجز" المؤسسية ليست بالضد من العمل الحزبي، كما هو متصور في وسائل التواصل الاجتماعي، بل في أن يكون هذا العمل قائماً على أساس برامجي، وعليه، يكون تعزيز دور المؤسسات، خصوصاً مع الخطط الاقتصادية والاجتماعية العابرة للحكومات، مادة مهمة للحفاظ على الأدوار التنموية للدولة، بعيداً عن الأصوات المحبطة أو المتاجرة.