سيرة العقل والجنون (19)

22 ديسمبر 2020
+ الخط -

قال كمال إن سيرة المجانين التي فتحها "أبو الجود" لا يوجد أجمل منها في العالم. وقبل أن يشرح فكرته قاطعه أبو جهاد، مستخفاً، كعادته، بأفكار أبو الجود، وقال:

- بتعرف يا أستاذ كمال؟ أنا لو كنت قاضي، وكان أبو الجود متهم، وجابوا لي حضرتك بصفة شاهد، مستحيل أقبل شهادتك. لأنك أيش ما قال هالمنحوس أبو الجود بتلاقيه كويس، وبتمدحه. يكون بعلمك إن اللي فتح سيرة العقل والجنون هوي أبو مرداس، وكل شي عمله أبو الجود إنه حكى لنا على رفيقه "بكار" اللي كان أبوه غني كتير، وحارمُه من الخرجية.

ابتسم كمال، وخاطب "أبو جهاد" بمودة قائلاً له:

- إنت كمان ما بتنقبل شهادتك في المحاكم. لأنه إذا أبو الجود بيكتب رسالة الغفران، ورواية الإخوة كارامازوف، وزوربا، ما راح يعجبك. وبما أن أنا وأنت مختلفين بالرأي خلينا نحتكم للصديقات والأصدقاء الموجودين في هالسهرة.

أبو محمد: أنا بشهد إن حكايات أبو الجود كويسة. وأيش ما حكى أنا ببقى مبسوط.

أبو المراديس: أنا بأيد موقف أبو محمد، وبنفس الوقت متفق مع فكرة الأستاذ كمال. الحقيقة أن أبو الجود ما اكتفى بتقديم سيرة البخيل أبو بكار، لكن رسم لنا صورة مفاجئة للشاب "بكار"، وهيي إنه بلش يصرف من مالُه الخاص على مجانين القرية، وصار يهتم بطعامهم وشرابهم وملبسهم، وأنا شايف القصة متجهة نحو تشكيل أسرة إنسانية فريدة، قصدي أسرة بكار (العاقل) مع مجانين القرية.

أبو ماهر: القصة اللي سمعناها من أبو الجود البارحة كانت رائعة.. قصدي لما راحت والدته واشتكت ع المجنون "طَقّ مصَدّ" لوالدته السيدة أم وحيد وقالت لها إبنك وسخ لي قدام باب الدار. وأنا استنتجت منها إنه "طَقّ مْصَدّ" مجنون معروف، وشهير، ومتفق عليه، في حين مجتمع القرية بيعتبر السيدة أم وحيد والسيدة أم عبد المجيد عاقلات، ومع ذلك شفناهن عم يقوموا بتصرفات جنونية!

أم زاهر: خلونا نرجع للخط الأساسي لو سمحتوا. اللي صار أن "بكار" جَهَّز أماكن لنوم المجانين في داره، وصار يطعميهم ويلبّسهم وينظّفهم. بس أنا بدي أسأل: المجانين ممكن يتعايشوا مع هالجو الإنضباطي المرتب؟

أبو الجود: مو بس تعايشوا. خلينا نقول كَيَّفُوا على هالشغلة. لأن نحن العاقلين بهديكه الأيام ما كنا ناكل غير طبيخ برغل، أو مجدرة، ولما منجوع، وما منلاقي شي ناكله، منجيب رغيف ومنحط عليه زيت ودبيركة وفليفلة مطحونة، ومناكل، وإذا بدنا نصرف ونجخّ منجيب شلفون (فرخ دجاج) منسلقه ومنجتمع عليه عشر أشخاص، ومنتزفّر فيه، بينما المجانين لقوا في بيت بكار الكبب والسنبوسك والشيشبرك والرز والشاكرية، وبعد الأكل بتجيهم الحلويات، وبعدما قعدوا في دار بكار شهر أو شهرين تعلموا ينظموا الشغل بين بعضهم، واحد بينظف الصحون، وواحد بيغلي شاي.. هادا كله وأنا ما حكيت لكم عَ النظافة، لأن قبل هالمدة كنا نتلاقى بأي واحد من المجانين في الزقاق، نشم ريحة الوخم طالعة منه، أما بعد ما صاروا في ضيافة بكار اختلف الوضع.. بكار اشترى لكل مجنون طقم مناشف، وتياب داخلية، وعمل في الحمام خزان مياه كبير، وصار يوصّي على صابون غاز زنابيلي (4 براميل) من حلب، واتفق مع جارته أم أيوب إنها تاخد التياب الوسخة، مرتين في الأسبوع، تغسلها وتنشفها وترجعها.. صدقوني لولا المشكلة اللي صارت مع المجنون "أبو الدكّ" كانت عيشتهم من أحلى ما يكون.

كمال: هون أنا عندي ملاحظة فنية بتتعلق بذكاء أبو الجود ومعلميته. لما الحكاية دخلت في حالة ركود، بلش يحكي عن وجود مشكلة، حتى يخلينا نتشوق.

حنان: تشوقنا بالفعل. شو اللي صار مع المجنون "أبو الدكّ"؟

أبو الجود: "أبو الدكّ" إسمه الأصلي "خالد"، وما كان مجنون، لكن في أول طلعته ع الدنيا كان يحب يلبس تياب جديدة، ويساوي هندامه متل بقية الشباب، ومن سوء الحظ إنه أبوه كان فقير، متل أبوي أنا.. لكن أبو خالد كان شخص غريب، أنا بظن إنه ما في متله في العالم.

أبو ماهر: لهالدرجة؟

أبو الجود: نعم. يا سيدي أبو خالد، منشان ما يطلبوا منه أولاده خرجية، راح اشترى بريم (عقال)، وصار يحطه على راسه، وكل شوي يقول لولاده: اليوم ما جَرَّبْنا البريم. تعال ولاك إنته. ويأشر لواحد من الولاد، ويبلش فيه ضرب بالبريم، والولد ينط لفوق وينزل لتحت ويولول، وأبو خالد يقول: تمام. الحمد لله، هالبريم كتير كويس. قوي.. وإذا واحد من الولاد طلب منه حاجة حقها مصاري كان يمضّي النهار وهوي عم يجرب البريم في لحمه. منشان هيك لما كبر خالد فكر يطلب من أمه مصاري، لأن أم خالد إنسانة حنونة وقلبها طيب. راح خالد لعندها وهوي عم يتلفت متل الحرامية لحتى يتأكد إنه ما حدا راح يسمع كلامه، وقال لها:

- يام، بدي أشتري قميص وبنطلون وقشاط، وكمان بدي أشتري مراية ومشط، لأن أواقيت بكون ماشي في الضيعة بيهبّ الهوا بيطير لي شعري، وإذا شي يوم رحت لأخطب بنت كويسة ما راح ترضى فيني، وبتقول: ما بتزوج خالد، على طول شعره مخربط.

قالت أم خالد: لا تخليني أتخانق مع أبوك يا خالد، هلق إذا بقله راح يزعل ويقول إنه بنطلونك كويس، ما في غير رقعتين، وحدة من ورا، وواحد في الكم التحتاني، وقميصك كويس، كبير عليك شوي، لأنه كان يلبسه أبوك قبلك، بس منيح..

وقبلما تكمل أم خالد كلامها قال خالد:

- طيب يام، بلا البنطرون والقميص، خلي أبوي يعطيني حق مراية ومشط..

قالت له: طيب.

وراحت لتحكي مع أبو خالد في الموضوع، وخالد طلع على سور البيت ووقف في حالة تأهب، قال لحاله (إذا وافق أبوي يعطيني حق مراية ومشط بنزل ع الدار، وإذا غضب وصار يهدد بالبريم بنط ع الزقاق وبهرب. واللي صار أنه أم خالد حكت مع الأب، فصار يضحك، ويقول:

- خالد بده يشتري مراية ومشط؟ ما بتعرفي المتل أشو بيقول يا أم خالد؟ (سلاح البشط، مراية ومشط).. ومد أيده عالبريم، وقال لها: اليوم ما جربت البريم. ابعتي لي خالد.

خالد سمع هالحكي نط ونزل ع الزقاق. ومن يومها صار يدور في أزقة الضيعة، ووين ما شاف جب يحط راسه فوق الفتحة، ويتطلع لتحت، ويتمرى على المي الراكدة، ويسوي شعراته بإيده.

وسكت أبو الجود.

طلبوا منه يكمل. ضحك وقال: خلونا نطرّي حلقنا بكاسة شاي.. وبكفي لكم القصة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...