سيارات سورية أسدية (5)

14 سبتمبر 2019
+ الخط -
الحديث الذي دار في جلسة الإمتاع والمؤانسة السابقة أوصلنا إلى نتيجة مهمة جداً، وهي أن في سورية قوانين وأنظمة توحي بأنها "دولة قانون ومؤسسات"، ولكن الحاكم الفعلي للبلاد هو أجهزة المخابرات، وهؤلاء يهمهم تطبيق القوانين والأنظمة، ليس حباً فيها، ولكن لكي يستطيعوا أن يسترزقوا من الموظفين المرتشين الذين يخالفون القوانين والأنظمة! 

حدثنا الأستاذ كمال بأنه، ذات مرة، خلال إقامته في مدينة الريحانية التركية، أوائل سنة 2013، تَعَرَّفَ إلى ضابط مخابرات منشقّ تربطه به صلة قرابة بعيدة، وهذا الضابط روى لكمال الأعاجيب عن العلاقة القائمة بين اللصوص والحرامية والمرتشين والمختلسين من جهة، وضباط الأمن من جهة ثانية.. وقال له: 

- في كتير من الأحيانْ، نحنا ضباطْ المخابراتْ ما منحتاجْ نْرَاقِبْ دوائرْ الحكومة حتى نعرفْ مين هني اللصوص، لأنه اللصوص بيجوا لعندنا عَ الفرع من تلقاء نفسهم. 

قال كمال: 

- أنا سألته للضابط: وهدول بيقولوا لكم نحن لصوص وحرامية، هيك، بكل وقاحة؟ 

فقال لي: لا طبعاً. ما بيقولوها، إنما نحنا منعرفهم بسهولة من خلال تصرفاتهم. 

وقال (الضابط): ذاتْ مرة صارْ معي موقفْ غريبْ. أنا كنت في مكتبي، ودخل الحاجب وخبرني إنُّه فلانْ الفلاني، اللي هوي رئيس دائرة حكومية زغيرة، موجود في غرفة الانتظار، وحابب يقابلني. فأمرته بإنه يفتح له ويدخّله لعندي، وأنا طلعت من ورا مكتبي وسلمت على فلان باحترام، وطلبت منه يستريح، ووصيت له على كأس شاي، وخبرته إنه أنا جاهز لأي خدمة أو مساعدة.. وبعدما عمل مقدماتْ، قال لي إنه هوي بحاجة دَعْمْ فرع المخابرات تبعنا للمديرية تبعه، لأنها مديرية فقيرة، وميزانيتها ضعيفة، وإذا ما دعمناها ما راح يصير فيها شغل ولا خدمات تفيد المواطنين. أنا تحمستْ، وأبديت استعدادي لتأمين دَعْم للمديرية من خلال علاقاتي من الدوائر الحكومية الأخرى والوزارات الموجودة في الشام.. الرجل شكرني، ولما قام حتى ينصرف ناولني مغلفْ، وقال لي هدول هدية متواضعة من مديريتنا لحضرة جنابك. فتحت المغلف لقيت فيه خمسين ألف ليرة (رشوة). بوقتها ضحكت غصباً عني، وسكرتْ المغلفْ على المصاري وناولته إياه، وقلت له: 

- تفضل. هادا المبلغْ دَعْمْ مني للمديرية الفقيرة تبعكْ! 

قال أبو ماهر: القصة اللي حكاها الأستاذ كمال نقلاً عن الضابط المنشق ممتازة ومعبرة. وبالفعل هادا المدير أعلن قدام الضابط بشكل غير مباشر على أنه حرامي ومختلس وأبدى استعداده لتنفيذ الشراكة على نهب المديرية بالاشتراك مع الضابط.. لكن نحنا مو هادا حديثنا، لأنه كنا عم نحكي في موضوع تسجيل السيارات في سورية.

قال كمال: نعم. وإذا أنا خرجتْ شوي عن الموضوع سامحوني. 

قال أبو زاهر: على حسب ما بتسعفني ذاكرتي، كان حديثنا عم يدور حول عناصر المخابرات الزغار المكلفين بمراقبة الدوائر الحكومية، وهدولْ العناصرْ بيبقوا طول النهار شايلين دفاتر المذكرات (اللي بياخدوها من دوائر الحكومة بطريقة الابتزازْ والسلبطة) وبيدوروا من دائرة لدائرة على طريقة المتل الشعبي اللي بيقول (من بيتْ شْقَاعْ لبيت رْقَاعْ لبيتْ كَتَّرَ اللهْ أفضالكمْ)، وبيتصيدوا الرزقْ تبعهم من خلالْ تلفيق تهم للموظفينْ، وبعدها بيتخلوا عن التهم مقابل الحصول على رشوة، أو نسبة من المبلغ المُتَنَازَعْ عليه. وهدول، بنفس الوقت، بيشبهوا الصيادين اللي بيفضلوا يصطادوا من الأماكن اللي بيكون الصيد فيها وفير، متل مديرية النقل والمواصلات المختصة بتسجيل السيارات، ومؤسسة العمران اللي بتبيع حديد وإسمنت، والمصارف.  

قلت: إذا بتسمحوا لي، أنا مستعد أعمل تسوية بيناتكم، وإحكي لكم حكاية إلها علاقة بالسيارات وبالضباط الكبار اللي جاب سيرتهم صديقنا كمالْ. متلما بتعرفوا، لما بتكبر رتبة العنصر أو الضابط بتصير صفقاتُه المشبوهة أكبرْ، وبتكون مُحاطة بالسرية، لإنُّه مو حلوة بحق الضابط الكبير تطلع عليه سمعة إنه مرتشي.. وبالأخص إنه هالضابط الكبير لما بيكون فيه مناسبة احتفالية بيقعد يحكي للناس عن الوطن والتضحيات والقائد التاريخي وضرورة التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني.. إلى آخره. 

قال أبو محمد: وعدتنا بحكاية. وينها؟

قلت: هلق وصلنا للحكاية. في التمانينات كان في إدلب ضابط حقير، سمع بتاجر سيارات كبير مختص بالسيارات المستعملة.. هادا التاجر كان يشتري السيارة التعبانة بفلوس قليلة، وياخدها ع الراموسة بحلبْ، ينفضها، ويْرَجِّعْها لإدلب وهي متل العروس، وبيبيعها وبيربح فيها.. الضابط اتصل بالتاجر وقال له اشتري لي سيارة عتيقة. قال له التاجر: أمرك معلم. 

بعد شوي اتصل التاجر المنافق بالضابط وقال له: اشتريت لك سيارة. 

قال الضابط: ابعتها ع الراموسة وانفضها. 

قال له: أمرك. وبعد شي أسبوع اتصل التاجر وقال للضابط: بعتناها ع الراموسة ونفضناها وصارت متل العروس. 

قال الضابط: بيعها، واحسب لي قديش بتربح، وجيب مبلغ الربح وتعال لعندي. 

المهم التاجر دفع للضابط خمسين ألف ليرة على أساس هاد ربح السيارة. علماً أن الضابط ما دَفَعْ ولا تاجَرْ ولا نَفَضْ ولا اشترى ولا باعْ. والتاجر نفسه كان فاهم اللعبة، لا اشترى سيارة باسم الضابط، ولا نفضها، ولا باعها. الشغل كله متلما بتقول صار ع الورق. فتأملْ!  

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...