سيارات سورية أسدية (4)

12 سبتمبر 2019
+ الخط -
أكد الأستاذ كمال للحاضرين في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" أن ما قلناه سابقاً عن التعقيدات الكارثية المتعلقة بتسجيل السيارات الخاصة أو العامة في سورية ليس سوى غيض من فيض، وأن هذه التعقيدات، رغم حقارتها، تبدو في بعض الأحايين غاية في الطرافة. وأضاف:

- من كترْ ما صدرتْ قوانينْ وأنظمة وقراراتْ إلها علاقة بالسيارات في سورية، صار في عندنا ناسْ مختصينْ بالتفسيرات القانونية، وكان ينوجِدْ في كل "مديرية نقلْ" في كل محافظة موظف عتيق (قرمة) يُسْتَشَارْ في البحث عن مَخْرَجْ قانوني لما بيكون فيه حالة معقدة ولازمْها حَلّ، وكان هالموظف يشتغل متل المفتي، مهما كانت الشغلة معقدة بيقدر يخترعْ لها مَخْرَجْ.
قال أبو محمد متعجباً: كل القصص اللي حكيتوا لنا إياها في السهرة الماضية، ولسه في حالات معقدة؟!


قال أبو زاهر وهو في قمة الاستهزاء: يا عمي أبو محمدْ القانون في نظام حافييظ الأسدْ لازم يبقى محترمْ، ما بيجوزْ تْنْقَصْ من إضبارة السيارة اللي بدها تسجيلْ ورقة واحدة أو وثيقة، وخاصة لما الموضوع بيتعلقْ بشغلة روتينية ما لها قيمة ولا طعم أو لون.. لاكن لما بيتعلقْ الأمرْ بالحِفَاظْ على نظام الحكم ما في شي بيمنع إنه المخابرات يعبوا شباب متل زرار الورد في سيارات شاحنة مخصصة لنقل التبن والزبل، وهالسيارات بتفضي الشبابْ في سجن تدمر، وبيتسكَّرْ عليهم باب السجن شي عشر أو خمسطعشر سنة، وبيبقوا كل هالسنين من دون ما يشوفوا بشر أو حيوانات أو وحوش، وممنوع إذا واحد منهم مرض إنه يشوفه طبيب، أو ياخد دوا، والسجين اللي كان متل زر الورد بيموت من سوء التغذية والجوع والوسخ والقمل والسل والكُساح، وأحياناً بيكونوا العناصر عم يتمشوا في الباحة وبيخطر لهم يقتلوا واحد من هالمساجين، كنوع من التَفَكُّهْ يعني، وطبعاً ما بيقتلوه بالمسدس أو السكين أو شنق، لاكن بيحاولوا يبتكروا طريقة قَتْلْ جديدة بتتسجل على إسمهم بصفتها براءة اختراع.

وبنفس الوقت، لما حضرتك بتقول لموظف مديرية النقل (يا أخي والله طفرتونا ومللتونا على قد ما طلبتوا منا أوراق ووثائق وإيصالات مالية وطوابع)، بيرد عليك الموظف: يا عمي الشغلة فيها مسؤولية، أي والله إذا أنا بخالف القانون دائرة التفتيش بتقصّ إيدي!


قال أبو محمد متعجباً: بيقصوا إيده؟

قال أبو زاهر: هادا كلام مجازي طبعاً، ما حدا بيقص إيد حدا، هوي قصده إنه ممكن إذا سَاعَدْ مواطن مسكين غلبان بيكونْ عم يخالفْ القانونْ، ولا بد إنهم يعاقبوه، لاكن اللي أنا بعرفه ومتأكد منه إن الموظف بهالحالة بيكون غالباً من النوع المرتشي، والجهات الأمنية عندها فكرة كافية ووافية عن الموظفين المرتشين، وبتتعامل معهم متلما بيتعامل الفلاح مع البقرة الحَلَّابة.. بتلاقي الفلاح طول النهار عم يراقب أثداء البقرة لحتى تتعبى وتكبر وتنتفخ، وبوقتها بيجيب السطل وبيحطوا تحتها، وبيبلش يحلبها.. وهدول جماعة الأمن بتلاقيهم عم يراقبوا الموظف المرتشي، لوقت ما يغلطْ ويساعدْ شي مواطن غلبان، وبوقتها بيجيبوه وبيقولوا له: كمشناك لما كنت عم تساعد المواطن الحقير بالجرم المشهود، هلق بقى بدنا نقصّ إيدك. والموظف المرتشي بيعرف البير وغطاه، ومتأكد من إنه هدول عناصر المخابرات أحقر منه، وبيرتشوا أكتر منه، منشان هيك بيبتسم لهم، وبيسألهم:

- قديش بتكلفنا هالشغلة؟

وفي المحصلة بيقتطع جزء من الرشاوى اللي حصل عليها وبيدفعها إلهم، وهني بيتركوه وبيروحوا حتى يبحثوا عن مرتشي آخر منشان ياخدوا حصتهم منه، وبالأخير ما حدا بتنقص إيده. بالعكس، أيادي اللصوص يوم عن يوم بتطول وبتصير نهمة للرشاوي أكتر وأكتر.

قال كمال: مو دائماً القصة بتنحل بالرشاوي. إنته يا أبو زاهر عم تظلم الجماعة.
قال أبو زاهر: عفواً. قصدك ممكن يكونوا عناصر المخابرات أوادمْ وشرفاءْ وما بيقبلوا بالخطأ والعوجا والزاحلة؟

قال كمال: لا يا زلمة. إنته راح فكرك لبعيد. أصلاً المخابرات إذا لقوا بيناتهم إنسان شريف وما بيحب العوجا والزاحلة بيسرحوه. أنا قصدي إنه فيه نوعين من الابتزاز بيتعرض لها الموظف المرتشي. النوع اللي حكيت عنه حضرتك، وفي نوع تاني بيحصل في حالات نادرة.

قال أبو محمد باهتمام شديد: متل أيش أستاذ كمال؟

قال كمال: إذا الموظف المرتشي ذكي كتير، بيسرق سرقات قليلة وكبيرة (محرزة)، وبطريقة محبوكة.. بهالحالة ما حدا بيقدر يكمشه بالجرمْ المشهودْ.. لاكنْ بعد مدة بتظهر عليه علامات النعمة، بيشتري منزل جديد وحقل مزروع زيتون وسيارة، هون بقى المخابرات بيضربوه ضربة مؤلمة.. بيلفقوا له تهمة بيغلب عليها الطابع السياسي، وبيتهموه بمعاداة القائد ونظام الحكم، وبياخدوه عند الفجر، وبيغيب، وأهله بيسألوا عنه هون وهون، والقصة تبعه ما بتنحل قبلما يوعز أثناء وجوده في المعتقل لأهله، بأنهم يبيعوا الأرض أو السيارة أو أشجار الزيتون، ويدفعوا رشوة كبير للضابط الكبير المسؤول عن هالقضية. وبيدفعوا وبيطلع من المعتقل.
وعلى هذا المنزال تمشي الأمور في هذه البلاد التعيسة المنكوبة.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...