سورية... حتّى قنوات الصرف الصحي تحمل لنا الموت

26 نوفمبر 2022
+ الخط -

أن تعيش الحرب وخطورتها، يختلف كثيراً عن أن تعيش ما بعدها؛ في المرحلة الأولى تخاف على حياتك وحياة من حولك أكثر، وتهتم بالضحايا والتدمير الذي يحدث. ولكن في الثانية، فأنت تعيش مرحلة ما بعد الحرب، التي قد تصل فيها إلى تجاهل أمر الضحايا مقابل لقمة عيشك المُرّة أنتَ وأطفالك.

بالطبع، الحرب في سورية لم تنتهِ بعد، لكن رقعة انتشارها تضاءلت، وبدأنا نعاني قسوة الحياة وصعوبة المعيشة بعدها، في ظلّ عدم توفّر حاجاتنا الأساسية إلا بصعوبة وبكميات قليلة ومبالغ مرتفعة. 

لكن المثير للغرابة لدينا هو استمرار الموت بأشكالٍ مختلفة في هذا البلد، فلا تمرّ بضعة أشهر إلا ولدينا حدثٌ يهزُّ أعماقنا؛ من الوفيات بسبب فيروس كورونا، إلى حرائق الغابات وبساتين الزيتون قبل عامين، إلى احتراق بيادر القمح، إلى قلّة الأمطار في الشتاء والجفاف في الصيف، إلى العواصف التي تخلّف وراءها أضراراً كبيرة، إلى الإعصار الذي ضرب ساحلنا في شهر يونيو/حزيران الماضي وهدمَ جدراناً واقتلع أشجاراً كبيرة، إلى غرق قارب المهاجرين قبالة ساحل طرطوس ووفاة عدد كبير منه، إلى الفيضانات التي تملأ الشوارع وتمنع التنقل وتُغرق البيوت وتُخرّب بضائع التجار في المحلات الأرضية… 

جميعنا نتخيّل هول حَدثِ الغرق في مياه نظيفة وقسوته، فكيف بالغرق في فتحة الصرف الصحيّ؟ 

أمس الجمعة، استمرت الأمطار الغزيرة لساعات في مدينة اللاذقية، غمرت الشوارع، حتى بات السير فيها صعباً للغاية. ولسببٍ ما كانت السيدة هدى مع ابنتها، ندى داؤد، تجتازان شوارع فيها العديد من الحفر الكبيرة التي غطتها مياه الأمطار القوية. وبسبب الظلام وارتفاع منسوب المياه في الشارع، ساقتهما المياه المتدفقة إلى حفرة واسعة للصرف الصحي (قيد الإنشاء منذ سنة!) وسقطتا فيها. تمّ إنقاذ الأم بسرعة، إلا أنّ الفتاة ذات الـ25 سنة اختفت تحت المياه التي سحبتها إلى عمق 15 متراً داخل فتحة الصرف، وعلقت عند نقطة وصل بين الأنابيب. وبعد عدّة ساعات من البحث، تمّ سحبها من قبل أخيها بمساعدة رجلين تابعين لفرق الإنقاذ، وهي غائبة عن الوعي، وإدخالها إلى العناية المشدّدة لمحاولة إنعاشها. 

جميعنا نتخيّل هول حَدثِ الغرق في مياه نظيفة وقسوته، فكيف بالغرق في فتحة الصرف الصحيّ مع تدفق كبير لمياه الأمطار التي سحبت معها كلّ ما في الشوارع من أوساخ وأتربة؟ كان منظر الحفرة التي يتجاوز قُطرها المترين مخيفاً، حيث امتلأت بالمياه التي تغور داخلها إلى الأسفل عبر قناة عريضة. 

أيّة فظاعة تعرّضت لها ندى؟ وأيّة قسوة؟ ما الذنب الذي ارتكبته لتعاقب بهكذا عقاب؟ 

خلال شهر واحد، فاضت شوارع اللاذقية ثلاث مرات بسبب الأمطار، قنوات الصرف ليست مستعدة تماماً لاستقبال الأمطار، وإضاءة الشوارع ليست كافية لرؤية أعمال الحفر أو مشاكل الطرقات وحُفر الصرف الصحي في بعض الأحياء؛ لأننا نعيش في مدينة تعاني من العتمة شبه الدائمة. 

نحن شعبٌ يتعبُ كلّ يوم أكثر،  ويختنق وتضيق به الدنيا في كلّ لحظة

ويبقى السؤال: لماذا ندفع هذه الأثمان كلها؟ إن كان الأمر متعلقاً بمبدأ الكارما، فما هي الفظائع التي ارتكبناها لتحلّ علينا كلّ هذه اللعنات؟ ألا يمكن أن تصير حياتنا أقل قسوة وبشاعة؟ نحن شعبٌ يتعبُ كلّ يوم أكثر، ويختنق وتضيق به الدنيا في كلّ لحظة، لقد أُنهِكنا يا الله! القلوب كلها متعبة، والوجوه كلها عابسة، فمن يسير في شوارعنا من الصعب جداً أن يجد امرأ يسير وحيداً وعلى وجهه ملامح رضا وارتياح، فكيف بابتسامة؟ 

بعد ساعات من محاولات الإنعاش، فقدت ندى حياتها، ونحن لا ندري لمن سنحمّل المسؤولية الأكبر في ذلك.. فتحة الصرف أُغلقت خلال ساعات قليلة. 

بالتزامن مع حادثة غرق ندى، توفي الشاب صفوان جبيلي، بعمر 39 سنة، بعدما صعقه البرق في الليلة ذاتها أثناء وجوده في الشارع، إلا أنّ حادثة ندى كانت أشدّ هولاً واستهجاناً، لأن كلمة "لو" تفتح احتمالات لنجاتها لو تحقّقت، ولأنّ عدم الجدّية والمسؤولية في العمل من قبل الموكلين بهذه المهام وتقصيرهم كانت سبباً قوياً في هذه المصيبة. أما الشاب فإنّ مصيره أكثر ارتباطاً بفكرة القضاء والقدر، ولا توجد احتمالات فيه. 

لكن في الحالتين كلتيهما، كان الموت متربّصاً بنا، وكأنه سكن هذا البلد ولم يغادره. ومع ذلك مازال السوريون ينتظرون فرجاً جديداً في كلّ عام، إلا أنّ كلّ عام يحمل معه مزيداً من العذاب الأرضي والسماوي. 

إننا حقاً بلدُ الشقاء، وآلامنا أثقلت هذه الأرض، الكوارث لا تفارقنا، ولا أحد يعبأ بنا، ويكترث لراحتنا، وكل يوم نتعرف إلى لون جديدٍ للموت. 

رهف غدير
رهف غدير
مدرّسة لغة عربية سورية، وتعمل في إخراج وتدقيق الكتب العربية.