حين أضعتُ شوارعَ المدينة
الوطن؛ أنحدّدهُ بالمكان الذي ولدنا فيه، أم الذي ينتمي إليه أهلنا، أم الذي تربينا فيه؟ أحياناً تكون هذه الأماكن الثلاثة هي الوطن، وأحياناً كثيرة يكون الوطن هو المكان الذي نرتاح بالعيش فيه.
لثلاثين سنة عشتُ في مدينتي (اللاذقية) التي ولدت فيها، والتي ينتمي إليها والداي وأجدادي. وطوال هذه المدة، لم أحلم بالعيش في مكان آخر على وجه الأرض، فكان تعلقّي بها كبيراً، ومع الزمن كبُرَ في داخلي شعورُ الانتماء إلى مدينتي وقريتي والطبيعة الساحلية الخضراء فيها.
منذ خمس سنوات انتقلت للعمل في العاصمة دمشق، حاولتُ التأقلم مع جوّها الصحراوي القاسي أحياناً، ومنظر منازلها الممتدة إلى ما لانهاية تقريباً، وشبه انعدام الطبيعة فيها، ومجتمعها المحافظ، ونمط الحياة الاجتماعية فيها، وحتى اختلاف انتماءات الناس وثقافاتهم وعاداتهم المتنوّعة، بحسب المدينة التي قدِموا منها. كان كلُّ شيء غريباً عني، ورغم ذلك حاولت جاهدة الانسجام معه.
صرتُ أمشي في طرقات مديني، وأنا أتساءل: هل حقاً هذه هي مدينتي التي كنت أنتمي إلى كلّ حارةٍ فيها؟
أستطيع أن أعترف بأنّ ما ساعدني على تحمّل بُعدي عن مدينتي ومن أحبّهم فيها، هي نشاطاتي الثقافية والترفيهية التي صبغت صورة الغربة بحالة التجربة المغايرة لنمط حياتي السابق، الذي لم أشعر أنه مملٌّ أو روتينيٌّ يوماً. كذلك ساهم حبّي للتعرّف إلى أماكن جديدة باكتشافي لكثير من أحياء العاصمة المنظّمة والعشوائية، الغنية والفقيرة، حتى إنني كنت أُسرُّ بقدرتي بعد سنة من وجودي فيها على إرشاد أيّ شخص لأيّ شارع فيها أو مَعلمٍ معروف، بل وإرشاده إلى اسم "الميكرو/ الباص" الذي يجب أن يستقلّه للوصول إلى وجهته. كما كان اتساعها سبباً في وجود أماكن تسلية متنوعة تبعد الملل عن المرء. وبانشغالي بهذا كلّه وعملي؛ لم أسعَ لبناء علاقات جديدة متينة فيها، ووضعتُ حدوداً أمام معظمها، مكتفيةً بعلاقاتي (التي أصفها بالجيّدة) المتعدّدة مع الأقارب والأصدقاء في مدينتي.
على الرغم من قدرتي الدائمة على ملء وقتي بما يرضي ميولي، سواء من ناحية العمل أو التسلية، إلا أنّ فكرة العودة إلى مدينتي بقيت تلحُّ عليّ، مع أنّ ظروف الحياة في العاصمة أفضل من غيرها من نواحٍ شتى. ولكن كان يسيطر عليَّ شعورٌ بأنني أحيا حياتين شبه منفصلتين ومستقلتين؛ والأمر لم يكن سهلاً أبداً، ولا سيما مع السفر المستمر. وفي المكان الذي أكون موجودةً فيه، كنت أنسى تقريباً حياتي في المدينة الأخرى.
تغيّر إحساسي تجاه مدينتي وتجاه أناسها، وبات يجرحني شعورُ البعدِ عنها، وأنا بداخلها
لقد خُلق الإنسان ولديه قدرة على التكيّف والتأقلم مع الظروف المختلفة، إلا أنّ درجة نجاحه في هذا التكيّف يعود غالباً إلى أسبابٍ نفسية عنده، ترتبط بمدى تعلّقه بمكان ولادته، ومدى رضاه عن معيشته فيها وعلاقاته مع أفرادها، فإن لم يكن راضياً عنها تماماً، صارت الغربةُ سهلةً، لا بل يعتبرها منجاةً أحياناً، ولا يفكر بالعودة إلى مسقط رأسه، مع أنّ الإنسان في المجمل يبقى لديه حنين إلى المكان الذي تربّى فيه، ولو أنه لا يفكر بالعودة إليه، إذ يكفي أن ترتبط ذكريات مرحلة الطفولة بمكان ما حتى يبقى التوقُ إليه موجوداً، قد يكون توقاً إلى الحالة الشعورية التي كان يعيشها المرء في تلك المرحلة، والتي تتمثل بدلال الأهل ورعايتهم وحنانهم في تلك الفترة أكثر من غيرها، غالباً، وبتحرّره من ثقل المسؤوليات وأعباء الحياة الكثيرة، وبذلك يكون حنينُه عبارةً عن رغبةٍ في العودة إلى حالة الراحة التي عاشها في تلك المرحلة بما فيها من لعبٍ وتسلية وهدوءِ بالٍ ولامسؤولية.
في الأشهر الأخيرة بات يسيطر عليّ شعورٌ مختلفٌ في كلِّ مرةٍ أزور فيها مدينتي، إذ صارت غريبة عني، بتُّ أمشي في شوارعها وأشعر أن الناس غرباء، وجوههم غير مألوفة، لا أعرف عاداتهم وكأنهم جاؤوا المدينةَ أخيراً، أو أنا من جئتُها متأخرة! صرتُ أمشي في طرقاتها، وأنا أتساءل: "هل حقاً هذه هي مدينتي التي كنت أنتمي إلى كلّ حارةٍ فيها؟". لقد تغيّر إحساسي تجاهها وتجاه أناسها، وبات يجرحني شعورُ البعدِ عنها، وأنا بداخلها. وطبعاً هذا لا يعني أنني أصبحت أشعرُ بالانتماء إلى مدينة دمشق، فهي الأخرى لا تزال غريبةً عن روحي.
بدأت أتساءل: "إلى أين أنتمي الآن وقد صرتُ أشعرُ بالغربةِ في مدينتي التي تربيتُ فيها، وفي المدينةِ التي أعملُ بها؟". وحيّرني السؤالُ في كلِّ مرة: "إلى أين أنتمي الآن؟". وكان يأتيني الجوابُ الوحيد مباشرة: "إلى قريةِ جدي... فقط".