خطوبة ليلية وفلسفة ثاقبة ناقبة

05 سبتمبر 2022
+ الخط -

أعجب صديقي أبو صالح بالحديث عن المصطلح الذي قلنا إن أهل إدلب يستخدمونه في وصف الشخص الثرثار، فيقولون: فلان رَكّيب، أي كثير الركوب على صهوة الحديث.

قال: ويستخدمون، أيضاً، مصطلح: عَلَّاك.

- العَلَّاك يقول كلاماً فارغاً، وليس بالضرورة أن يتحدث لوقت طويل مثل الرَكّيب. ومصطلح الركيب، بالمناسبة، ينطبق على بعض أهل الفكر والثقافة، ففي سورية؛ كنا ندعى لحضور محاضرة لكاتب معروف، وتقوم السلطات المحلية بحشد أكبر عدد ممكن من (السَمّيعة)، ليجلس هؤلاء المساكين أكثر من ساعة وهم يستمعون إلى الهشت (الكلام الفارغ) الذي يقترفه هذا الركيب التافه بحقهم، وحينما يعتقدون أن الفرج قد جاء، وأن المحاضرة ستنتهي على خير، يقوم أحد المنافقين (الطزيزة)، ويسأل المحاضر سؤالاً تافهاً، فيجري تمديد المحاضرة إلى أن ينتهي المحاضر من الإجابة عن سؤاله..

- يا لها من مسخرة.

- نعم. ولكي أخرجك، يا أبو صالح، من هذه الدويخة، سأحكي لك حكاية لا بد أن تعجبك، عن رجلين شقيقين من مناطقنا، ذهبا لخطبة فتاة لابن أحدهما.

- تفضل.

- جاء الشاب (أحمد) إلى والده الركيب (أبو أحمد)، ورجاه أن يخطب له الفتاة (سمية). رحب أبو أحمد بالفكرة، وقال إن أهل هذه الفتاة أوادم، ولا شك أن ابنتهم مثلهم. ووعده بأن يذهب في المساء بصحبة شقيقه (أبو فالح)، لزيارة والدها، وطلب يدها حسب الأصول. تلجلج العريس أحمد قليلاً، وعندما استفهم منه أبوه عن سبب اللجلجة، أفهمه، بلباقة شديدة، أن الخطوبة يجب أن تكون مثل طلقة التفنكة (البارودة)، أي: لا تستغرق زمناً طويلاً. وأضاف: أنا أعرف أنكما، أنت وعمي، تتحدثان بشكل جيد، ولبق، وتعرفان حكايات كثيرة، ولكن وقت الخطوبة ليس مناسباً لمثل هذا!

علق صديقي أبو صالح على هذا الموقف، فقال: يعني "أحمد" كان يتوقع أن يفتح الشقيقان الركيبان سوالف لا علاقة لها بالموضوع.

- طبعاً. فهو يعرف أباه وعمه ويحفظهما على الغائب. المهم. أنت، يا أبو صالح، تعرف أن إدلب، حتى بعد أن أصبحت مركزاً للمحافظة (سنة 1960)، عبارة عن مدينة ذات طبيعة زراعية فلاحية، لذلك اعتاد معظم الناس، في تلك الأيام، أن يصلُّوا العشاء ويناموا، كي يستيقظوا في الصباح الباكر، وينطلقوا إلى الفلاحة، ورعاية المزروعات، وجني المحاصيل.

عن إذن الأستاذ فلان (ذكرت اسمه)، أنا عندي ما يسمونه في اجتماعات المعارضة "نقطة نظام"..

- صحيح 100%

- المهم، ويبدو أن الفتاة "سمية"، سربت لأهلها أن أحمد سيرسل أهله لطلب يدها.. ومعلومات أهلها عن أحمد أنه شاب ممتاز، ولذلك استقبلوا الضيفين الرَكّيبين أبا أحمد وأبا فالح بحفاوة. ولكن عملية الخطوبة التي شبهها أحمد بـ طلقة التفنكة، لا بد لها من تمهيد قصير، دردشة في الشأن العام، وحالة الطقس، والموسم الزراعي الحالي، ربع ساعة من الزمان، ثم يدخل الضيف بالموضوع، أي طلب يد الفتاة.

- نعم. وخلال ذلك تضع ربة المنزل أمام الضيوف شوية موالح وفواكه..

ضحكت، وقلت: أنت يا أبو صالح تحكي عن الزمن الحاضر. وأما الزمن الذي وقعت فيه الحكاية، فلم يكن يوجد شيء اسمه فواكه، ولا حتى موالح. كانوا يضعون أمام الضيوف قليلاً من البزر المحمص (قَلِيّة)، وإذا كان مع البزر شيء آخر، مثل فستق العبيد، فإنهم يسمونه (النقل)، ومنها جاء المثل الشعبي: كمل النقل بالزعرور. وهذا المثل ينطبق بحذافيره على أهل الفتاة، إذ لم يكن ينقصهم إلا أن يأتيهم هذان الرجلان الرَكّيبان ليطلبا ابنتهم! المهم، بدأ الشقيقان يتناوبان على ركوب الحديث، ويسردان السوالف التي لا طعم لها، دواليك حتى تجاوز الوقت منتصف الليل.. ولكن، يجب ألا ننسى أن جَدة العروس تثاءبت، في منتصف السهرة، وانسحبت، وبعد نصف ساعة أخرى، استأذن شقيقُ رب البيت، وغادر، ووالدةُ العروس قالت للرجلين (لا تواخذوني، أنا نعست، البيت بيتكم)، وانسحبت.. وهكذا حتى بقي والدُ العروس وحده صامداً أمام الضيفين، يستمع على مضض إلى تلك الأحاديث البايخة، وصار يغفو ثم يصحو.. ثم خطرت له فكرة، فوقف، وقال لـ أبو فالح:

- أنا أرى أن تصغي لتتمة الحكاية من أخيك أبو أحمد، وعندما تنتهي حكايته احكِ له أنت حكاية أطول منها، وأكثر تشعباً، ولا تنس أي تفصيل مهما يكن صغيراً.. وعندما يدرككما النعاس، اخرجا من هنا، ويكفي أن تغلقا الباب (الجلخ)، فهو لا يحتاج إلى قفل.. وبالمناسبة، أنا أعرف أنكما جئتما لخطبة ابنتي سمية لولدكم أحمد، والله أحمد هذا على رأسي وعيني، شاب كسيب ومهذب ومحترم، لا عيب له سوى أن أباه ركيب، وعمه ركيب. ولذلك يؤسفني أن أقول: ما في نصيب. وتركهما وخرج.

- يا عيني عليك يا أبو مرداس. والله حسناً فعل صاحب البيت.

- نعم، وأنا حصلت معي، ذات مرة، حكاية تشبهها. فقد جاء لزيارتي، في منزلي بمدينة الريحانية سنة 2012، مجموعة من الأصدقاء والصديقات، وكان بينهم رجل لم يسبق لي أن التقيت به، حتى إنني لم أسمع باسمه. ومع ذلك انطلق يحكي، دون أن يقيم اعتباراً لوجودنا جميعاً. ومن خلال حديثه تخيلتُ أنه يسهر الليالي وهو يؤلف جملاً عويصة، يركّبُها من حوشيِّ الكلام، ومهجور اللغة، ومن معاجم الفلسفة، ثم يقف أمام المرآة، ويتدرب على إلقائها في الليل.. حتى إذا ما سنحت له مجموعة من السميعة المساكين، أمثالنا، يكر عليهم مثل شاحنة "هنشل" نازلة في نزول الثنايا.. والمشكلة في ذلك الضيف العويص أنه، أثناء استفراده بنا، لم يكن يترك في حديثه ثغرة ننفذ من خلالها، وكنا نحن، في تلك الأيام، غير مستعدين لسماع أي نوع من هذه الفلسفة الثاقبة الناقبة، لأننا طالعين ثورة، ولا نستطيع أن ننام الليل من فرط التفكير بإسقاط النظام.. لذلك أنا صرت أحوص، وأتحرقص، وأرسل بصري من خلال الباب، وأقول لشخص غير موجود في العمق:

- خير جدو؟.. في شي؟ .. أنا؟ طيب. عن إذن الصبايا والشباب.

وأخرج من الغرفة، وأعود، ولكن هذا لم يكن ليؤثر على (صرماية) الضيف المتفلسف، فكان يلتفت إلى الآخرين، ويكمل لهم سرد محفوظاته الفلسفية.. المهم، خطرت لي فكرة نفذتها حالاً. خرجت. غبت دقيقة واحدة، ثم دخلت، وقلت:

- عن إذن الأستاذ فلان (ذكرت اسمه)، أنا عندي ما يسمونه في اجتماعات المعارضة "نقطة نظام"..

قال لي: تفضل. بإمكانك أن تعرض وجهة نظرك.

قلت: لا هي وجهة نظر، ولا بطيخ. فقط أرجو حضرتك، باسمي واسم الأصدقاء الموجودين هنا، أن تأخذنا على قد عقلنا، وتحدثنا بلغة من مستوى تفكيرنا، حتى نفهم عليك ونتعلم منك، ونتثقف. يا رجل! أأنت لا تريد أن تثقف شعبك؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...