حين تبشّرُ فلسطين وغزّة بما بعد السيّاسة
"سقط القناع عن القناع عن القناع.. سقط القناع".
تلك هي كلمات الشاعر، محمود درويش، في قصيدته "مديح الظلّ العالي". يوم أحسّ الفلسطينيُّ أنّه وحيدٌ بلا إخوة ولا أصدقاء، بلا ماء ولا دواء. وحيدٌ في صرخةٍ بنبرةِ العدم. أعزل دون سلاح في مواجهة جرّافة الاحتلال التي تقتلع بيته، وشجرة زيتونه وتريد أن تمحي ذاكرته، وذاكرة فلسطين. ومنذ تلك الكلمات العالية، ظلّت "أمّ البدايات وأمّ النهايات" مسرحًا لسقوط الأقنعة. لكن القناع الذي أسقطته الحرب على غزّة لا يهمّ الفلسطيني وحده في حدود قضيته؛ ولا في حيّز وجع الخريطة، والتمزّق العربي، بقدر ما يهم كلّ إنسان في أيّ مكان آخر، لأنّ سقوطه كشف عن حقيقة وجه هذا العالم.
لقد عرّت هذه الحرب وكشفت عن قسوة "نظامنا العالمي"، عن عبثيته وفوضاه المنظمة، عن فقدانه المعنى في الصّمت عن المجازر، بل وفي إيجاد ذرائع ومبرّرات للقتلة، وذلك بسبب أولوية مصالح الدول وسباقها لإحراز القوّة بأيّ ثمن، من خلال الإنتاج المادي والمضاربات المالية والتفنّن في وشم الرّدع والرُّعب على ذراع الفتوّة العسكرية التي تهدّد بمسح الحياة من على هذه الأرض. وذلك أيضًا، في انفصالٍ تام عن نبض المجتمعات التي أنشأتها، ولأيّ غرض أو حاجة.
لقد عرّت الحرب على غزة وكشفت عن قسوة "نظامنا العالمي"، عن عبثيته وفوضاه المنظمة، عن فقدانه المعنى في الصّمت عن المجازر
سقط القناع الأخيرُ، في الحرب الأخيرة على أطفال غزّة، الجوعى، العراة. سقط عن وجه العالم لنتنبه إلى هول الهوّة في التباين بين الشّعوب الحيّة من جهة، وبين أنظمتها اللاإنسانية الباردة من جهة ثانية. ففي الغرب صاحب أطروحة حقوق الإنسان وقيم الحداثة خرجت حشود من المواطنين إلى الشارع بوجهٍ مغسولٍ من مواقف حكوماتها اللاأخلاقية المخزية، لتشجب وتندّد صارخة ضد الإبادة الجماعية لسكان غزّة. ففي لندن وحدها خرجت مسيرة بنصف مليون متظاهر، ومائة ألف في برلين، كما الآلاف في العاصمة الفرنسية. وهولندا وإسبانيا، وإيطاليا أيضًا، وفي عدد من المدن الأميركية التي ذهب متظاهروها إلى حدّ توقيف حركة القطارات في محطة "سنترال بارك"، كما سعى آخرون في "أوكلاند" إلى إيقاف عملية شحن سفينة لنقل أسلحة أميركية من كاليفورنيا إلى إسرائيل. ورغم التّوصيات بعدم رفع علم فلسطين في مدرّجات كرة القدم، فإنّ مُشجِّعي نادي سلتيك الاسكتلندي حوّلوا استادات كاملة في إسبانيا واسكتلندا وأيرلندا إلى ساحة مظاهرات لدعم فلسطين. ولن يكون آخر تلك الاحتجاجات ما أقدم عليه الجُندي الأميركي الذي أحرق نفسه أمام السّفارة الإسرائيلية في واشنطن في مشهد مؤلم، حيث بدا صامدًا وواقفًا في جحيم موته الخاص، الذي لا يساوي شيئًا (كما قال في تغريدة له) أمام عذابات وآلام المنكوبين في غزّة. صارخًا باسم فلسطين، ورافضًا أن يكون جزءًا من نظامٍ بلا رحمة. دون أن ننسى أفرادًا آخرين عبّروا عن إدانتهم بطرق مختلفة أقلّ مأساوية وأبلغ تعبيرًا. ناهيك عن العرائض التي كانت قد وُقّعت على نطاقٍ واسع للضغط على الحكومات بعدم دعم إسرائيل في عنفها غير المسبوق، والذي لم نشهد له مثيلًا، على الأقل، في جيلنا الذي عايش أكثر من حرب ومحاولات إبادة.
لقد قلب هذا المشهد السّاخطُ الذي حركه الحسُّ الأخلاقي والضمير الإنسانيّ الطاولة على الموقف الرسميّ الغربي المنحاز، وإعلامه المضلّل؛ إعلامٌ قُوِّضَ بآخر بديل اندلع في منصات التواصل الاجتماعي كالنّار في الهشيم. رغم قيود المنع والتضيّيق، وحتى التّهديد الذي طال أسماء من المشاهير لها قاعدة جماهيرية عريضة.
في كتابه "كيف تصبح إنسانًا" الذي صدر عام 1961، كتب عالم النّفس الأميركي كارل روجرز: "عندما أنظر إلى العالم فأنا متشائم، ولكن عندما أنظر إلى النّاس أغدو متفائلًا". ورغم اعترافه بصعوبة هذه المرحلة التي تُوجّه فيها المجتمعات الاستهلاكية نحو اندحار القيم ووضع المواقف في ميزان السّلع فقد كان يعتقد "أنّنا (شعب الغد) سوف نكون مجتمعًا خادمًا للحقيقة وموجّهًا للنموّ بما هو كشفٌ للجانب الإنساني وللإمكانات البشرية".
سيجبرنا ما يجري في عالم اليوم على الدخول في عصر ما بعد السياسة، حيث سينقلب من تحرّكهم الأخلاقيات من أفراد وجماعات على الطبقة السياسية
إنّ مسار العالم يتحرّك خارج إرادة الشعوب وأفرادها. وبينما يفعل ذلك، يفقد الجاذبية الأرضية والواقعية. إنّه مسار منفلت. وإسرائيل (التي لم يوقفها أحد عن بطشها وطغيانها اللامحدود تجاه شعب احتلت أرضه) هي لاعب أساسيٌّ في مضماره. مسارٌ مندفعٌ بلا فرامل، تدور في فلكه كلّ الأنظمة. لذلك تعجزُ هذه الأخيرة وهي مُكبّلة فيه، عن إدانة قويّة وجذرية ومباشرة لدولة الاحتلال. مثلما عجزت وتعجزُ أخلاقيًّا كلّ ساعة أمام قضايا هذا الكوكب المصيرية، كالاحتباس الحراري وتغيّر المناخ. علاوة على العجز عن إيقاف خطر حرب نووية في أفقِ المُمكن. لذلك، فإنّ مثل هذه المواقف السياسية (كما يرى عدد من الخبراء الاستراتيجيين) النّاتجة عن المصالح النيوليبرالية التي لا تخدم بأيّ حال السلام العالمي ولا سلامة كوكب الأرض، ولا أمن البشر أو خيارات مستقبل الأفراد والمجتمعات، أصبحت تفرز كردة فعلٍ دعوات مستنيرة خارج لعبة اليمين واليسار التقليدية. دعوات تُشعرنا ولو على مستوى اللاوعي، بالرّغبة في العودة إلى لوحة الرّسم وإعادة اختراع السّياسة من الصفر. وهو ما سيجبرنا (والرأي للخبراء) على الدخول في عصر ما بعد السياسة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، حيث سينقلب من تُحرّكهم الأخلاقيات من أفراد وجماعات على الطبقة السياسية. وفي حال إن لم يدمّرنا اختلال المناخ أو تبيدنا القنابل النّووية، سيعود مركز الصدارة (ولو بعد حين من الدّهر) إلى واضعي استراتيجيات التّغيير، القادرين على إلهام قفزات في الوعي بشكل مستقل عن سياسات اتباع القائد البائسة.
فمن شأن ردات الفعل هذه، المناهضة لمواقف المؤسسات والسلطة البيروقراطية، وأمام الخطر المحدق بوجودنا من كلّ ناحية، أن يعمّق حاجتنا الملحة إلى تعزيز الوعي الكونيّ كرؤية عالمية واسعة النّطاق لرفع الحسِّ الأخلاقي، وترسيخ مسؤولية كلّ فرد في عالمنا تجاه ما يحدث في كلّ بقعة من هذه الأرض.