حبّة زرقاء أم حمراء؟ ومصادر معاداة النساء
لا بدّ أنك صادفت صفحات أو قنوات تحمل عناوين من قبيل "الحبّة الحمراء"، أو "الوعي الذكوري"، أو حتى "الوعي الأنثوي" كرد فعل معاكس، أو حملات معادية للمرأة الموّظفة.. فكيف حصل أن أصبحنا أمام أفكار تقترح أنّ الصراع هو حَصرا صراع بين النساء والرجال؟
عندما ألف العالم فرانس دي فال كتابه "سياسات الشامبانزي: السلطة والجنس لدى القردة"، أصبحت الدراسات تأخذ على محمل الجد العلاقة بين السلوكين الإنساني والحيواني، إذ يُفسّر فرانس هذا الانتشار الواسع لمصطلح بات مألوفاً اليوم، هو "الذكر ألفا" (المُهَيمن)، عبر قيام عضو الكونغرس الأميركي المحافظ نيوت غينغريتش باقتراح كتابه المذكور على أعضاء الكونغرس الجدد. هكذا اشتهر المصطلح، وأصبح يشير إلى الرجل القيادي، والذي يقع في أعلى هرم الرجال المرغوبين لدى النساء، خاصة ضمن سياقات ترتبط بخطاب كراهية النساء، والذي ظهر بالموازاة مع تقدّم حقوق النساء، ثمّ الأزمات الاقتصادية التي أحدثت مراجعات كبرى لأدوار النساء والرجال في المجتمعات الغربية، وبقية العالم المتأثّر بها. خاصة أيضاً، بعد تزايد عمل النساء وظهورهن في المجالات العمومية، حيث ظنّ البعض أنّ الأوضاع الاقتصادية الجديدة ستجعل الرجال يخسرون "مكاسبهم التاريخية". هكذا ظهر عبارات "الذكر ألفا"، "الذكر بيتا".. وهي تعبير عن تصوّر تراتبي وهرمي للهيمنة الذكورية من الأقوى إلى الأضعف.
يَعود استعمال هذه المصطلحات إلى "العلم الزائف"، ليصبح قاعدة نظرية مزيّفة تبرِّر وضع الرجل في المجتمع الجديد. سَيكشف عالِم علم الرئيسيات، فرانس دي فال، أنّ استعمال عبارة "الذكر ألفا" للدلالة على الذكر المُهيمن والعنيف، والقوي، هو استعمال خاطئ تماماً. ذلك أنّ الزعامة لدى جماعة الشامبانزي لا ترتبط بالذكر الأقوى جسدياً دائماً، بل يتمتع أغلب الزعماء بصفات السخاء (مشاركة الطعام) واللطافة تجاه البقية، وبناء التعاطف والتحالفات، والتي قد يحصل عليها ذكر صغير تمكّن من الحصول على دعم الإناث.
لقد وجد استعمال المصطلحات العلمية طريقه إلى علم النفس، وخاصة علم النفس التطوّري، وأصبحنا لا نحصي عناوين الكتب التي تنهل من نفس المنابع لتبرير تصوّراتها عن الذكورة والأنوثة. هنا سيبرز اسم ما زال يحظى بتأثير كبير على الإنترنت، وهو المختص بعلم النفس الإكلينيكي الكاتب جوردن بيترسن، والذي ترجع مصادره المعرفية إلى خليط من أفكار التحليل النفسي وتأثير عالم النفس كارل يونغ، والمصادر المسيحية المحافظة. كما تحضر لديه فكرة التراتبية بشكل قوي.
الزعامة لدى جماعة الشامبانزي، لا ترتبط بالذكر الأقوى جسدياً دائماً
يحظى خطاب "بيترسون" بقبول واسع من حيث نقده للنسوية. لكنه يذكر دائماً أنه لا يهدف إلى شيء آخر غير الحفاظ على البناء الأخلاقي للحضارة الغربية، في مقابل جميع التداعيات التي تلت إعلان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عن "موت الإله"، أي نهاية اتخاذ الدين مصدراً رئيسياً للأخلاق، وأغلب كتابات الرجل تحاول إيجاد قواعد أخلاقية ثابتة أمام عالم فوضوي لا يرسو على ميناء.
أيضاً، يَحضر دور السينما بشكل طريف ضمن هذه المصادر، بوصفها أصلا اتخذته هذه الاتجاهات، حيث يُعدّ فيلم "المصفوفة" مرجعاً غريباً حقاً. فنحن نعلم البعدين الديني/المسيحي والفلسفي الكامنين في الفيلم، حيث نجد الاستعارة الدينية في فكرة المُخلّص (المسيحية) من خلال البحث عن منقذ للبشرية من الهلاك، بينما نجد البعد الفلسفي عبر فكرة خضوع الإنسان للوهم والزيف الاجتماعيين، والذي يمنعه من اكتشاف الحقيقة بنور العقل وحده (تعود هذه الاستعارة إلى أمثولة الكهف لدى أفلاطون)، حيث يقدّم الفيلم غزواً للكائنات الفضائية، والتي ستتخذ من أجساد البشر مصادراً للطاقة، عبر إدخال الناس في منظومة محاكاة توهمهم أنهم يعيشون في عالم حقيقي (عالمنا الحالي). ثم نجد المشهد الأهم والأشهر عندما يقدم "مورفيوس" اختباراً حاسماً للبطل: إمّا أن تختار الحبة الحمراء وتخوض غمار الصراع من أجل تخليص البشرية، أو تختار الحبة الزرقاء، والتي ستعيدك إلى عالمك المزيّف والهادئ.
سيختار البطل المُخلص أخذ الحبة الحمراء ليخرج من مصفوفة الوهم الى نور الحقيقة. إنها الاستعارة المفضلة عند أصحاب الأفكار المعادية للنساء، حيث سيجدون خلاصهم في الاعتقاد أنّ النساء هنّ المسؤولات عن بؤس العلاقات الاجتماعية والقانونية (وليس الرأسمالية أو الاستبداد السياسي..).
من الغريب أنّ يكون الغرب مصدراً لخطابات يُقال لنا أنها دخيله على ثقافتنا، بينما يتم استعارة الخطابات المعادية لها من نفس المصادر أيضاً
أخيراً، ومن خلال استثمار كلّ من نتائج علم الاحياء وعلم النفس التطوّري ثم السينما، وفهم خاص لبعض التصوّرات الدينية المحافظة، ستشكل هذه الخلطة مصدراً للخطابات المعادية للنساء على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة من خلال مساهمات أحد أهم الشخصيات المؤثرة في العالم الرقمي، وهو الكاتب والمخرج غونزالو ليرا، وهو صاحب محتوى على "يوتيوب" شكّل مصدراً للعديد من المحتويات المشابهة. لم يخف "غونزالو" أنه كان يحلم أن يصبح كاتباً روائياً، غير أنّ ظنّه لم يخب تماماً، فها هو اليوم يعدّ مصدراً شعبياً جداً لخطاب معاداة النساء، انطلاقاً من نفس مرجعيات العلم الزائف المذكورة سابقاً، أي تختار النساء الذكر المهيمن والأعلى في سُلّم الهيمنة، ولا تقبل الأقل منه إلا من أجل استغلاله مادياً وتوفير قوت أطفالها، مستثمراً قضايا الطلاق التي تعدّ مجحفة في حق الرجال من أجل تعزيز خطابه.
عموماً، إنّ استثمار نتائج علوم البيولوجيا وعلوم الرئيسيات، ثم العلوم الإنسانية، خاصة علم النفس التطوري، وتعزيز ذلك بغطاء مستمد من عالم السينما الشعبية، بالإضافة إلى الخطابات الدينية والمحافظة، أضف إلى ذلك عالماً رقمياً يتصارع فيه الناس من خلف شاشات هواتفهم... وكلّ ذلك سينتهي بواسطة الترجمة عن الإنكليزية إلى بقية اللغات، إلى أن تصادف صفحات مشابهة تحمل نفس الاستعارات ونفس المرجعيات، لكنها مترجمة إلى اللغات المحلية، وتستثمر بعض المؤلفات الثانوية، والمتناثرة، خاصة عندما تدّعي المرجعية الدينية، وينتهي كلّ ذلك إلى انتشار خطاب يعادي النساء ويقدمهن كبشَ فداء للأزمات الاقتصادية والأخلاقية التي تمرّ بها الانسانية.
ومن الغريب أنّ يكون الغرب مصدراً لخطابات يُقال لنا أنها دخيلة على ثقافتنا، بينما تجرى استعارة الخطابات المعادية لها من نفس المصادر أيضاً.