الفاتورة
هاتفته الحبيبة المدلّلة بحماس، تحت ذريعة تسليمه هدية، وهي عبارة عن كتاب اقتنته من المعرض الدولي للكتاب. كانت قد تعرّفت على الفتى، من خلال تطبيق فيسبوك، وهو شاب عاطل في أواخر العشرينيات. بدا لعينيها وسيما، حسن الخُلق، ناجحاً في غواية بعض الفتيات، ما جعلها ترغب في خوض التجربة. بالإضافة إلى مقدار الثقافة، ورصيد الروايات التي يحفظ اقتباساتها عن ظهر قلب، بدا لها رجلاً مناسباً للمرحلة التي تعيشها، وهي في مطلع العشرينيات.
وبعد اللقاء الرتيب، والابتسامات المنمّقة، كما يحصل عادة، أخبرته أنّها راغبة في الذهاب إلى المطعم القريب، غير أنّه في لحظة رُجولة غامِرة، وكما جرت العادة، كان يجب أن يدعوها للمطعم. وهكذا يمكن للمرء أن يتوقّع من دعوات الكرم المُزيفة تلك، أن يرفض الطرف الثاني بلطف، أو يفترض ذلك على الأقل، حتى يبدو الرجل بمظهر الكريم السّٓخي، دون أن يُكلفه ذلك سٓنتيماً واحداً. إلا أنّ غٓمرة الهوى، دفعت الفتاة إلى قبول الدعوة مباشرة. فبدا له العالم في تلك اللحظة، واهِياً، وهشّاً مثل حلم عابر، وتمنّى لو انشقت الأرض أو هزّ العالم حدثٌ جلل.
لكنه الآن، وبعد أن انتهت الجلسة، وقد التهمت الفتاة المدلّلة أطباقها المعتادة، لاح له شبابها الطري من خلف نظراتها المُنعّٓمة، إلا أنه في لحظات الاكتظاظ النفسي الغامرة تلك، غاب عنه أي افتعال لنسيان المحفظة، أو اختلاق قصة ما. لقد كان صادقاً، وشفافاً، بقدر ما كان راغبا في امتصاص شبابها النّدِي لنفسه بكلّ أنانية وفِسق غامرين، حيث اختلطت خلاعة الخيالات التي تنتابه من حين لآخر، وهو يلتهم جسدها، مع حواراتهما، عابرة عن الروايات المفضّلة، وأساليب الكُتّاب والكِتابة. لقد كان من النوع الذي يغرق في اللحظة تماماً، أعني، أنه لم يكن يضع سيناريوهات تُنبّئه بما يمكن أن يقع إذا فعل هذا الأمر أو ذاك.
كلا، لقد كان دائماً يترقب حصول معجزة. شيء ما، تدخّل أحدهم، ظرْف مُنقذ. والحق أنه كثيراً ما كان يحدث في ظروف مغايرة، أن يتقدم صديق، لدفع الفاتورة، سواء بدافع الحرج أو الشفقة، أو اللامبالاة حتى... بينما كان غالباً، يبتلع الحدث بواسطة ضحكات مُصْطنعة تُخفي الحرج. لكن هذه المرة، استمرت اللحظة مثل ثقب أسود عملاق، ابتلعه بعمق. فما كان منه إلا أن تقمّص دور الأبله الذي لا يدري شيئاً. حدّث نفسه قائلاً: "أنا لست معنياً بشيء"، وكما يحصل في لحظات الضيق، فإننا نلوذ بشخص ما، هكذا اتصل بصديق يعلم يقيناً أنّه لن يمانع مكالمة عابرة بلا معنى محدّد.
عندما قبلت دعوته إلى المطعم بدا له العالم، واهيا، وهشّا مثل حلم عابر
غير أنّ الفتاة لمحت ارتباكه، فقرّرت أن تعفي الفتى من الحرج، بعدما كانت ترغب هي الأخرى في منحه لذة القيادة لا غير، أي أن تشعر أنها تحت جناح يحميها، وتجعله يشعر بأنه مسؤول عنها، وإن خرجات التسكع تلك ليست بلا جدوى في النهاية. كلّ ما كانت تشترطه هو اللطافة مقابل الحصول على متعة الخضوع، إلا أنها في النهاية دفعت الفاتورة.
وما إن مرّت اللحظة العصيبة حتى انشرح قلب الفتى قليلاً، وخاض مع الفتاة المدلّلة، حواراً كان غائباً عنه بصفة جوهرية، وكأنه في حالة تنويم مغناطيسي، وقد انفصل وعيه وانشطر إلى جزئين: الأول يحاورها، ويبتسم، مردّداً كلامها بعبارات مُنمّقة لا غير، والجزء الآخر ما زال عالقاً في خِضم تلك اللحظة الكثيفة، كأنه سقط في هوّة سحيقة من الشهوات الخليعة والماجنة، التي تتقمّصه وتستولي عليه تماماً. ثمّ، أيضا، كان هناك بؤسه الموروث عن أجيال غابرة تجري في عروقه، وأخيراً، تلك المسافة البعيدة التي تفصله عن صورة ذلك الشخص الذي شكلتها عنه تلك الفتاة المدللة.
ها هو الآن عائد إلى بيته، بعدما افترقا بلطف، عائد إلى غرفته المظلمة، حيث كُتب البلاغة، وكتاب "الأمير"، والكثير الكثير من الروايات. وقد أصبح يشعر الآن، وكأنه أصبح عضواً وفياً في إحدى تلك الروايات. لكن مع ذلك، لم يشعر أبداً سوى بالرغبة في الضحك من نفسه، إذ لم يكن هناك أيّ درس أخلاقي لتعلّمه. بل شعر في أعماق حدسه، بأنه يمكن أن يترك نفسه في لحظة مماثلة، لتحدث بلا شك. وإن كان الشعور القاتم، والمذّل المصاحب للواقعة، قد يرافقه لزمن طويل، ويشكل ضباباً كثيفاً في ذكرياته الغائمة. لكنه، لحسن حظه؛ أو سوء حظه؛ كان يملك الكثير من المبرّرات والقصص والأفكار الكافية لتغليف تلك الحوادث في قوالب من الأفكار المنمّقة، والتي تمنحها منظراً مُستساغاً دائماً.