أربع سنوات بعد جائحة كورونا
بعد مرور حوالي أربع سنوات على جائحة كورونا، يبدو أنّ أثرها يَسري بشكل خفيّ كسريان الماء تحت كومة تبن.
هذا الحدث المفاجئ، يبدو أنّ هناك تواضعًا لا واعيًا من أجل تَناسيه، كما لو كان صدمةً جماعيّةً حلّت بالإنسانيّة. إنّ الحديث اليوم عن الأثر والتداعيات التي انبثقت عن الجائحة يُنسي الجائحة ذاتها. وهذا المقال سيكون أشبه بالتطهُّر من الألم الذي نشعر به عندما نتذكّر صدمةً ما حلّت بنا في الماضي لكنّها لا تزال تُشكّل الحاضر بِطُرقٍ خفيّة يُزعجنا تذكّرها. إنّه عالم غير يقينيّ تطبعه فوضى القيم، كما يحمل وسم ما بعد الحداثة من الناحية الفلسفيّة، أمّا سياسيًّا فيعدّ عالمًا متعدّد الأقطاب... وهو عمومًا وضعٌ يحمل بذورًا قيد التشكّل، وما نراه ربّما ليس سوى طريقة العالم في التعبير عن المخاض.
لقد أثار مصدر الجائحة جدلًا كبيرًا، لكنّه لا يمكن أن يتجاوز بؤرة منطقة "ووهان" الصينيّة. لهذا، يبدو أنّ هذا التحوّل الجذريّ إرهاصٌ ينذر بعالم جديد تصدر فيه الأحداث الكبرى من "الشرق"، أو بتعبير آخر، من خارج الغرب. إنّ كلّ ما رافق الجائحة من إجراءات احترازيّة عالميّة ساهم في تشكيله منظّمة الصحّة العالميّة والدول والكيانات الاقتصاديّة الكبرى والمرتبطة بصناعة اللقاحات. هذه التركيبة الرهيبة وغير المسبوقة عبر التاريخ تكشف ملامح جديدة. لقد قام الغرب بخلق العالم على صورته منذ حوالي خمسمئة سنة دون منازع يُزاحمه. غير أنّ الجائحة أتت هذه المرّة من مكان آخر، وهو إنذار غير مسبوق. يقول ماو تسي تونغ: "الثورة ليست حفلة عشاء، أو كتابة مقال أو رسم صورة، أو القيام بالتطريز؛ لا يمكن أن تكون نقيّة، مترفّهة ولطيفة، معتدلة للغاية، طيّبة، مهذّبة، مقيّدة أو سمحة. الثورة هي تمرّد، عمل من أعمال العنف التي تهزم بها فئة أو طبقة واحدة الأخرى.".
وإذا كان الصراع يعبّر عن نفسه بأشكال متنوّعة، فإنّ الجائحة أحد أوجه الصدع في عمق الجليد. إنّه التصنيع المكثّف وانتشار التحديث خارج الغرب بالإضافة إلى الأزمة البيئيّة. وهكذا عبّرت الصين عن عالم جديد قيد التشكّل. كما حوّلت الجائحة الدول إلى كيانات استبداديّة تختزل العالم في وجهين اثنين: الأوّل صحّيّ/تقنيّ، والآخر أمنيّ صرف. وبهذا فقد تحوّلت دلالات المجال العموميّ بشكل جذريّ إلى "إقامة إجباريّة" في المنازل.
وإذا كان الصراع يعبّر عن نفسه بأشكال متنوّعة، فإنّ الجائحة أحد أوجه الصدع في عمق الجليد. إنّه التصنيع المكثّف وانتشار التحديث خارج الغرب بالإضافة إلى الأزمة البيئيّة
وعندما أصبح فعل "الدخول إلى المنزل" نصيحة صحّيّة/عسكريّة وأصبحت حدود حركيّة الأجساد البشريّة تُهدّد بنقلة نفسيّة، تضرب عمق الطبيعة البشريّة التي تطوّرت حتّى تتّجه نحو التفاعل الخارجيّ. وهذا الانقلاب الاستثنائيّ وقلب المعايير جعلا من التباعد الجسديّ عملًا أخلاقيًّا، سوف يكشف هو الآخر عن لا مساواة كانت إلى حدود الأيّام القلائل قبل الجائحة مخفيّة بعناية. ومع توالي الشهور وإدراك طبيعة الحدث تدريجيًّا، ستكشّر الكيانات السياسيّة والاقتصاديّة عن أنيابها في سباق محموم لابتداع اللقاح. وعندما اختارت الصين الطريق التي قالت إنّها طريق كلاسيكيّة في إنتاج اللقاح، رفقة روسيا (وكوبا). تخندق الغرب خلف الولايات المتّحدة ولقاحها الذي قيل إنّه ثوريّ. غير أنّ عمليّات تخزينه وصيانته لم تكن تناسب الدول الفقيرة أبدًا. لقد فقدنا الكثير من أحبّتنا ومعارفنا أثناء الجائحة. ومع ذلك ظلّ شبح التشكيك واللايقين يراودنا بشكل دائم. كما أصبحت طاعة الدولة محلّ تساؤلات عديدة، خاصّة عندما يتمّ كشف النتائج القاتلة لبعض اللقاحات، وحماية بعض الشركات من المتابعات القضائيّة.
هذه العلاقة الرهيبة بين المستويين العالميّ والشخصيّ، بين المجالين العموميّ والخاصّ، أحدثت شرخًا وهوّة على عدّة مستويات، أعادت النظر في مدى أهمّيّة الفعل الإنسانيّ وتأثير الفرد في البنيات الكبرى التي تخترقه (دينيّة، وسياسيّة، وثقافيّة...)، لذلك يمكن تلخيص هذه العلاقة الرهيبة بين الفعل الفرديّ والبنيات والعلاقات الاجتماعيّة التي تخترق الفرد بالنقاط التالية:
أوّلًا: فقدان الفرد المبادرة وانهيار قدراته الناتج عن أثر تحديد الحركيّة في المجال لم يُلغيا أبدًا قدرته على إبداع أشكال مقاومة متنوّعة.
ثانيًا: تحوّلت كيانات الدول إلى أدوات قمعيّة واستبداديّة تشرّع قوانين ترهيبيّة لجعل الفرد يرضخ لسيادتها على المستوى الجسديّ الدقيق، ومن حيث الحركيّة وتوجيه حرّيّة التعبير. حتّى داخل الدول ذات نمط الديمقراطيّة الليبراليّة. الأمر الذي أشاع التشكيك في جدوى الديمقراطيّة في الدول الفقيرة. ولعلّه من السخرية القول إنّ فقدان الثقة بالديمقراطيّة كان قد بدأ بالفعل بعد انهيار تجربة الربيع الديمقراطيّ التي انطلقت في بلدان شمال إفريقيا.
ثالثًا: الاختلالات التي شكّلت صميم الكيانات المذكورة أعلاه، أحدثت تصدّعات في سرديّتها التي توزّعها مؤسّسات الحقيقة (كما يسمّيها ميشيل فوكو). الأمر الذي نبّه إلى أهمّيّة المقاومة عن طريق رفض الفعل (اللافعل). بوصفه نوعًا من الفعل السياسيّ الذي ينطلق من توجيه أجسادنا وجهة تُخالف مُبتغى السلطات الاستبداديّة، ما ساهم في ازدهار أساليب المقاطعة.
رابعًا: التقنية آخذة في التطوّر الهائل الذي يتجاوز تحكّم الإنسان، حيث تعمّق الخوارزميّات من هيمنة الأغنياء وهشاشة الفقراء. لكنّها تنسى نافذة تسمح مع ذلك بالانفلات من أشكال الاستبداد، وتحقيق إمكانات المحرومين من التقنيّات بواسطة التقنيّات الحديثة. لذلك وجب تجاوز الحاجز النفسيّ إزاء التقنية المتطوّرة واستغلالها بكفاءة في بلدان "العالم المتأخّر تاريخيًّا".
خامسًا: ترسيخ الخوف من المعرفة العلميّة بوصفها معرفة مُحايدة وإنسانيّة. لقد كشفت الممارسة أنّها معرفة علميّة تقودها الشركات الكبرى وفق أغراضها المتباينة. ما يتطلّب الوعي بإنقاذ العِلم نفسه. بوصفه واحدًا من أقوى أسس الحداثة التي يجب ترجيح إصلاحها على التخلّي عنها.
سادسًا: الكيانات التقليديّة (الحزب، النقابة...) بدأت تفقد طبيعتها الصلبة لصالح كيانات مُغايرة مثل التجمّع الرقميّ، والتنسيق الجماعيّ من دون قيادة تنظيميّة كلاسيكيّة. أو مجرّد العمل الفوضويّ. ويُنبّه إلى ميلاد أشكال جديدة.
سابعًا: القدرة على الفهم والتحليل والتأويل لا تأتي إلّا متأخّرة (الوعي يأتي متأخّرًا كما يقول كارل ماركس). وهذا ليس بالأمر السيّئ أبدًا. إنّ الفهم ضروريّ للفعل.
نظرًا إلى كلّ ما سبق، يمكن القول إنّ الحاجة إلى الفهم تقتضي تجاوز الجائحة ذاتها نحو تداعياتها اللاحقة بوصفها بنية ذهنيّة، وتمثّلات غيّرت العالم وهي اليوم سارية فيه من دون حتّى أن يعترف بذلك. مثال ذلك حرب روسيا وأوكرانيا بالوكالة مع الغرب. كما يعزّز وضع الأزمة هذا التوجّه نحو مزيد من الاستغلال، وإن كان قد نبّه بعض الدول إلى الخدعة التي عاشتها عن طريق الاعتماد على دول أخرى في ما يخصّ مصادر العيش الرئيسيّة، وجعلها رهينة للاستيراد. هذا الانتباه إلى الذات، والعودة إلى الجسد، جعلا من عالم ما بعد الجائحة عالمًا أشدّ قسوة ممّا كان عليه قبلًا. خاصّة تحت ظلّ أيديولوجيا العولمة الليبراليّة الجديدة التي وعدت بنهاية التاريخ مع اعتناق حلول الديمقراطيّة الليبراليّة، وذلك أينما سمحت الدول بدخول سِلَع الغرب وثقافته (جزء منه). إذ يشكّل الترابط بين السلع والثقافة أمرًا ضروريًّا لتعزيز أيديولوجيّتها على النفوس.
هذا الانهيار للقديم عزّز حالة اللايقين اليوم إزاء السياسة والعلم والفكر. وإذا كان هذا الوضع يُعرف بغياب اقتراح بديل ملائم يقدّم إجابات شافية عن وضع الأزمة، فإنّه لا بدّ أن يدفع الناس نحو الإجابات القديمة والآمنة: وهكذا تعود الثقة بالأسطورة بدل العلم والفكر من أجل اقتراح حلول إنسانيّة. وربّما يفسّر هذا نوعًا ما هذه العودة نحو الفلسفات الشرقيّة أو الغربيّة الإيجابيّة (الرواقيّة والتصوّف خاصّة). والثقة بالاستبداد الذي يضمن الأمن النسبيّ بدل الديمقراطيّة المترهّلة. بينما اختار فريق آخر طريق المغامرة وتبنّي الأفكار غير المعتادة عن النوع والمجتمع، من دون ربطها بالتقاطعات والإشكالات المُركّبة التي تخترق الفرد، والطبقة، والنوع، والسياسة... أي اختزال المشكلات في موضوعات دقيقة بشكل يُعفي الإنسان من الاصطدام بعالم غير يقينيّ بامتياز. هكذا يجب ألا نسمح لضباب الحداثة (سلبيّات التقنية والفردانيّة المفرطة...) بِحَجب قوّتها الهائلة. وهو الضباب الذي لطالما ساهم في إبعادنا عن مسار التقدّم.