بقايا كلام في سرير البطيخ
بطيختي نائمة في سريرها منذ أيام، بعد أن "عقدت" زهرة واحدة وسقطت الزهرات الأخريات في "سلخ بطيخ"، عرَّش على شجرة زيتون صغيرة في حديقة المنزل الذي أسكنه مع أسرتي في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة. تعبت البطيخة من حمل نفسها، فأشفقت عليها، واهتديتُ إلى صنع سرير من فضلة قماش كي يُساعدها في أخذ راحتها والاسترخاء في هذا الصيف الحار. ومن هنا تذكَّرت الجزء الثالث من رواية أحلام مستغانمي المُسمّى "عابر سرير". وأيضاً، تذكرتُ مجموعة قصصية بقيت في مكتبتي في مدينة إدلب عنوانها "غلطان يا بطيخ" من تأليف السوري جمال عبود، ولّا أنا غلطان في العنوان!
البطيخ في العالم على ضروب، وهو في أصله وفصله من فصيلة الخيار والكوسا والعجور والكندور. وأتذكَّر الآن أنّ من ألطف ما قرأتُ عن البطيخ، جاء في كتاب يحكي عن شؤون وشجون جمهورية "تركمانستان"، وفيه أنّ أحد أصناف البطيخ يسمّى "لا تلمسني". ومن شدّة حلاوته وصلابة قشرته عليك الاقتراب منه بحذر شديد حتى لا ينشق أو يتفلَّع من وقع صوت أقدامك على التراب، ويجب أيضاً أن تتكلم همساً عند الاقتراب منه حتى لا تزعجه، فتنشق البطيخة لوحدها إلى نصفين! فانظر (يا رعاك الله) ما ألطف وأرق حياة هذا الصنف من البطيخ التركمانستاني المدلّل.
في بازارات مدينة إزمير، على شاطئ بحر إيجة، والمطلّة جبالها على جيراننا الإغريق في اليونان الحديثة، تجد العديد من أصناف البطيخ أو الشمّام. وحتى لا يختلط الحديث على القارئ فيظننا نتحدّث عن البطيخ الأحمر، نقول كلا، نحن نتحدث عن البطيخ الأصفر المعروف بالشمّام لرائحته النفاذة. وأهل مدينة إزمير (كما شاهدتهم) يحبون أكل هذا النوع من البطيخ، وعندهم شغف بأصنافه المتعدّدة، حيث تزرع تلك الأصناف في مناطق مختلفة من هضبة الأناضول ذات المناخات والأتربة المتنوّعة، وتحمل أشكالاً وألواناً وطعوماً تُميّزها عن غيرها من البطيخ المزروع في باقي أنحاء العالم.
حكي لي والدي راشد دحنون (رحمه الله)، أنه في إحدى قرى منطقة جسر الشغور، في الشمال الغربي من سورية، كان يُزرع في أربعينات القرن العشرين أحد ضروب البطيخ التي انقرضت منذ سنوات، ويسمّى "بطيخ قنب" (وقرية قنب على الطريق بين إدلب واللاذقية). كان هذا الصنف من البطيخ يُصدَّر إلى لبنان في "كميونات" لصلابة قشرته التي تتحمّل الصدمات في السفر. وهو بطيخ متطاول الشكل، أصفر اللون، كبير الحجم، لذيذ الطعم. ومع هذا البطيخ كان الحاج الحلبي، الصناعي ووزير المالية بعد الاستقلال، وهبي الحريري، يزرع في نواحي مدينة جسر الشغور، الوفيرة بالماء العذب الأرز أو "التمن" كما يُسمّى في العراق، ومن يقرأ هذه الكلمات يظننا نهذي، ويسأل: وهل كان في سورية من يزرع الأرز؟ نعم، بكلّ تأكيد، أنا لا أهذي، كانت المياه وفيرة إلى هذه الدرجة في أربعينات القرن العشرين.
كنتُ أريد أن أكتب كلمتين عن بطيختي النائمة في سريرها في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير، فصارت الكلمتين جريدة
في صغري، قبل سن المدرسة، في سبعينات القرن العشرين كان يأتينا أحد أصناف البطيخ متطاول الشكل، أملس القشرة، أصفر اللون، كبير الحجم، من بلدة الفوعة (لم نكن نعلم يومها أن أهلها على المذهب الشيعي)، والتي تبعد عن مدينة إدلب شمالاً في حدود عشرة كيلومترات. بطيخ "الفوعة" يميل طعمه في العموم إلى الملوحة الحامضة، وحمضه منه وفيه كما يُقال. كنّا أطفالاً لا نستسيغ طعمه، ونسأل: "لماذا هو بهذا الطعم المز؟". ونادراً ما تكسر بطيخة من زراعة تلك المنطقة، وتجدها حلوة المذاق، فسبحان الخالق فيما خلق. وهنا حكاية طريفة عن البطيخ قرأتها في كتاب "الامتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، أرويها لكم: اشترى رجل بطيخة لأمه وعندما كسرتها وذاقتها وجدت طعمها حامضاً، غير مستساغ، يشبه طعم بطيخ بلدة "الفوعة" فسخطت، وراحت تسبّ وتشتم وتلعن. فقال لها ابنها: على من تسخطين يا أماه؟ زارعها لا ذنب له، وبائعها لا ذنب له، ومشتريها لا ذنب له، وما سخطك هذا إلا على خالقها!
ثم جاءت، في عصرنا الحديث هذا، بذرة جديدة من بطيخ أصفر، يكسر حدة صفاره القليل من اللون الوردي، فيصبح لونه "بطيخي"، يسمّى في بلاد الشام "أناناس" وهو فعلاً من أكابر الناس، شكله أميل إلى الاستدارة الكاملة، مثل الكرة، مدوَّر، متوسط الحجم، قاسي القشرة، غليظ "الشدف/الحز"، حلو الطعم، لذيذ المأكل، طيب الرائحة، وانتشر في أصقاع العالم. وانقرض بطيخ بلدة الفوعة، وتشرَّد أهلها نتيجة الحرب السورية، ثمَّ انتشروا، هم أيضاً، في أصقاع العالم. يا ليت تلك الأيام تعود، وسنقبل أن يكون بطيخها حامضاً، الله كريم على كل حال.
والظاهر، والله أعلم، عندما يتقدم العمر بواحدنا يصبح ثرثاراً، ويستطرد كثيراً، كنتُ أريد أن أكتب كلمتين عن بطيختي النائمة في سريرها في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير، فصارت الكلمتين جريدة. رحم الله أديبنا الكبير حسيب كيالي ابن مدينة إدلب الذي أورثنا هذه العادة في الاستطراد.