اليمن... ماضٍ لا يمضي ومستقبل لا يأتي

25 ابريل 2024
+ الخط -

يحق للمرء أنْ يتساءل، وهو يرى مجريات الأحداث: هل اليمنيون مبدعون؟ وفي الإجابة، تقول شواهد التاريخ بصوت عالٍ: نعم. لكن، ماذا عن الحاضر أيضاً؟

مَنْ يغُصْ في كتبِ التاريخ اليمني، سواء، القديم أو الوسيط أو حتى قسم من الحديث، يجدْ أنَّ اليمنيين كانوا روّاداً في إبداعاتٍ كثيرة، لا تزال شواهدها موجودة حتى اليوم، على الرغم من الإهمال الذي لفها، وما بقايا أعمدة المعبد البرّاني (الذي يُسمى عرش بلقيس) في مأرب إلا أحد تلك الشواهد إلى جانب سدّ مأرب القديم، ومئات القصور على رقعة الخريطة اليمنية، وغيرها من الآثار.

ولا ننسى، كذلك، الأسماء الكبيرة التي يعرفها كلّ عربي من المحيط إلى الخليج؛ ابتداءً من النبي هود عليه السلام، وليس انتهاءً في زمانِ اليوم، بالشاعرين الراحلين، عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني، مروراً بالملكة بلقيس وأروى والإمام الشوكاني وابن الأمير الصنعاني والهَمْداني ونشوان الحميري وعمرو بن معدي كرب الزُبيدي والغافقي… إلى آخره، إلى جانب الوقائع والأحداث التي كان لليمن الدور الريادي فيها، والمُسطّرة في كتبِ التراث والتاريخ. 

بيد أنّ كلّ هذا كما يقول الشاعر أحمد مطر: ذلك تاريخٌ مضى/ أحداثهُ كانـت قضا/ وأرضه كانـت لظى/ وأهلُهُ كانوا من الرجال!

يجتر اليمن تركةَ القرون الماضية في صورةِ صراعاتٍ مسلّحة، يقف وراءها الصراع الفكري الذي ينميها ويغنيها

على الرغم من هذا الإرث الضخم، يُطلُّ اليوم من وجوهِ اليمنيين البؤس وتلفهم الفاقة، ولعلّ ذلك يعود إلى سوءِ تدبيرهم أمور حياتهم منذ عقودٍ طويلة، إذا لم أقل منذ قرون طويلة! فمنذ تفكّك الدولة العباسية في منتصف القرن السابع الهجري والدول العربية التابعة لها في تفكّكٍ شديدٍ وتجزّءٍ، وكان اليمن السبّاق قبل الكل إلى هذا (الانفصال) الإداري عن جسد الدولة العباسية في بغداد؛ حيث استقلت دولة محمد بن زياد، وعاصمتها زبيد في العام 204هـ. والغريب في الأمر آنذاك، أنّ الخليفة المأمون نفسه ساهم في إنشاء هذه الدولة، ومن ثمّ تمزّق اليمن نتيجة دخوله في صراعات متعدّدة بين دويلاتٍ حكمت على أرضه، سواء في الداخل، مثل الدولة المهدية، أو النجاحية، أو الصليحية وغيرها، أو مَنْ جاء من خارج الحدود مثل الدولة الأيوبية، أو الزيدية، التي حكمت أكثر من ألف عام.

صاحب كلّ هذه الصراعات تراوح بين الانهيار والحضارة، وكلُّ هذا أنشأ جيوباً داخلية في المجتمع اليمني، تارةً باسم المذهبية، وأخرى باسم العرقية. كما تراكمت كلُّ تلك الجيوب الداخلية عبر كلّ هذه القرون، تخبو أحياناً وتثور أخرى، ولعلّ معاناة اليوم هي من ثوران تلك الجيوب.

كلُّ هذه الأسباب والظروف دفعت اليمنيين إلى التقهقر تخلفاً عن مركز الصدارة الذي كان لهم في غابر العصور، لكن هذا لم يمنع ظهورَ شخصياتٍ فردية مبدعة، كان لها الأثر داخل المجتمع اليمني وخارجه، رغم أنه (الظهور) يظلّ ظاهرةً منفردةً، في ظلِّ تذبذبٍ طاول وجود الدولة المركزية التي كانت تحضر في فتراتٍ معيّنة، فتزدهر الحياة اليمنية على كلِّ أصعدتها، كالدولة الرسولية التي حكمت هذا البلد للفترة (626 – 858 هـ / 1229 – 1454م)، فكانت مظلّة لكلّ إبداعٍ لم يحقّق اليمن نظيراً له في العصر الوسيط، بل حتى عصرنا الحديث.  

صراع يستعدي كلّ تراث الماضي وأحقاده، ليفسد، بل يدمّر المستقبل ويجعله مجهولاً

 

ثم تغيب تلك الدولة المركزية، لتدور الدائرة، وتعود الصراعات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، فيرتكس اليمن وأهله ويغيبون في الدركات من جديد، وهكذا دواليك...

إنّنا اليوم نجتر تركةَ القرون الماضية في صورةِ صراعاتٍ مسلّحة، يقف وراءها الصراع الفكري الذي ينميها ويغنيها، وليته كان صراعاً فكرياً فقط، لأنّ الفكر إذا ساد كانت ساحات تصارعه هي مجالس المناظرة والمجادلة وصفحات الكتب وردود الكتب، مما يعبّر عن حالة صحية يعيشها الجسد اليمني، لكن الأمر أصبح أكثر تطرّفاً وتعصباً أعمى وتحيّزاً قبيحاً، يبديه كلّ فريقٍ ضدَّ الآخر، وتُغذّيه أطرافٌ خارجية تبحث لها عن ساحةٍ في هذا البلد المنهوب، كلُّ هذا دون احتكامٍ إلى مرجعية واحدة تستند إليها أطراف الصراع.

صراع يستعدي كلّ تراث الماضي وأحقاده، ليفسد بل يدمر المستقبل ويجعله مجهولاً، فيتحقّق في اليمن مقولة الصحافي محمد حسنين هيكل: "اليمن ماضٍ لا يريدُ أن يذهب، ومُستقبل لا يريدُ أن يأتي"!

ولله الأمر من قبلُ ومن بعد.                           

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري