"اليأس إحدى الراحتين"
يسأل توماس مخاطبًا تريزا، وهما شخصيتان نسجهما الكاتب ميلان كونديرا في روايته "كائن لا تحتمل خفته": "ما هي الخيبة؟". فتجيب تريزا إنّها "فقدان الأمل". يتنهد توماس كأنه كان في انتظار هذه الإجابة بالتحديد، ويقول: "تماماً، المشكلة إذًا ليست في الخيبة، إنما في الأمل".
ما كان يعنيه كونديرا، على لسان إحدى شخصيات روايته، أنّ الأمل يعني انتظارًا لما هو أفضل. من هنا، فإنّ الخيبة هي الفشل في تحقيق ما كنّا نأمل فيه، لهذا يُقال إنّها "خيبة أمل". لكن، ماذا لو لم نتُق بالأصل لما هو أفضل؟ إنّه "اليأس"، وفيه راحة عبّر عنها الشاعر العباسي الشهير أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي (البحتري)، في واحد من أجمل أبيات شعره، أنّه "إحدى الراحتين"، طبعًا بعد الراحة الأولى وهي الموت، حيث يقول البحتري:
وَاليأسُ إحدَى الرّاحَتَينِ، وَلَنْ تَرَى...تَعَباً كَظَنّ الخَائِبِ المَكْدُودِ
قبل أنّ أعرف هذا البيت، قرأت ذات مرة أنّ اليأس هو ميكانيزما دفاعية يتخذها العقل عندما يدرك أننا لن نستطيع تحقيق ما نريد، بسبب ظروف قاهرة ربما، أو مشاكل شخصية، أو حتى صعوبة في الالتزام. وهنا، إذا تحقّق ما كنّا نتوّقع "فهو خير، وإذا لم يتحقق فلا ضير"، لأننا بالأساس لم نعد نأمل في شيء. وأعترف أنّني أعجبت يومها بالمقولة لما تحمله من لحن موسيقي فيه شيء من التناقض (خير، ضير)، قبل أنّ تصير لاحقًا مقولة تسيّر حياتي وتوّقعاتي عن نفسي، وعن العالم والأصدقاء والشريك والعائلة، والأهم عن المستقبل. وبصراحة أكثر، لقد وجدت في "اليأس" واقعية لم أجدها في غيره.
قد تقولون، وأنتم محقون ربّما، إنّ هذه دعوة إلى اليأس، وإنّ الإنسان يحتاج إلى القليل من الأمل، أو الكثير منه، حتى يستمر في فعل ما يريد، ومن أجل أنّ يطمح إلى واقعٍ أفضل مما نحن فيه الآن، وقد تضيفون أنّ اليأس قد يكون سببًا في شلّ حيواتنا وإيقافها بشكل كامل، ويحوّلنا إلى أناس محطمين نفسيًا. لكن دعني أخبركم أنني لا أعرف شخصًا واحدًا من هؤلاء الناس الذين تتحدثون عنهم إلا وكانت تعاسته بسبب خيبة أمل ما، وهي خيبة في معظم المرات جاءت بعد أمل كبير جدًا، أو حلم تحطم، أو حتى رفض تعرّض له فدمر كلّ توقعاته.
الخيبة هي الفشل في تحقيق ما كنّا نأمل به، لهذا يُقال إنّها "خيبة أمل". لكن، ماذا لو لم نتوق بالأصل لما هو أفضل؟
لعل خير ما يخطر في بالي كتجسيد لما يعنيه الجانب "الواقعي" من اليأس هو ما استطاع كاتب سيناريو مسلسل "التغريبة الفلسطينية" وليد سيف، ومخرج المسلسل الأستاذ الراحل حاتم علي، تمثليه في شخصية "مسعود"، الشاب الفلسطيني الذي كان يبدو بالنسبة لعائلته، ولكلّ من شاهد المسلسل، الوحيد المتزن في أوقات الانتكاسات وخيبات الأمل، وحتى في عزّ أوقات التهجير الفلسطيني، حتى كدنا نتهمه بالبرود وعدم الشعور بالمأساة الفلسطينية في بعض الأحيان.
يظهر هذا بشكل جلي في الحوار الذي دار بين "مسعود" وشقيقه "علي"، بعد أنّ حاول الأوّل ترميم محيط الخيمة التي استقروا فيها بعد التهجير وزراعتها ببعض الأشجار، وهو ما اعتبره شقيقه قبولاً بالواقع الجديد (واقع التهجير). وفيما كان "علي" يتمسّك بالرمزيات والاستعارات التي كانت أقرب إلى المقولات الحالمة منها إلى الواقعية، أصرّ "مسعود" على أنّه لا يقلّ حزنًا عن باقي أفراد عائلته على هذه الخسارة، لكنه فقط يتجاوزهم في الوقت، إنه وقت التشافي من الصدمة والانكسار والخيبة وتحطّم الحلم، لأنه فقط كان يؤمن أنّ المعطيات السابقة للنكبة كانت تشير إلى أنّ المجزرة على الأبواب.
لقد كان يأس "مسعود" هنا تمامًا دافعًا للبقاء والاستمرار، بينما كان حلم "علي" وباقي أفراد العائلة سببًا في الصدمة، تلك التي كانت العائلة أثناء محاولة التعافي منها تعتاش من بعض النقود التي يحصل عليها "مسعود" بعد أيام شاقة من العمل في ورش البناء.