الهند... رحلة تخلّي عن فلسطين
امتنعت الهند عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزّة. ومن خلال القيام بذلك، تكون قد انضمّت بشكل غير مباشر إلى عدد من الدول الغربية التي صوّتت ضد الاقتراح.
ومن خلال الامتناع عن التصويت أو التصويت ضدّ القرار، كشفت هذه الدول أنّها أذعنت للقصف الإسرائيلي المتواصل والعشوائي لغزّة، الذي أدى إلى سقوط الآلاف من الضحايا، بمن فيهم العديد من الأطفال، وحتى المرضى في المستشفيات.
وفي حين أنّ الدول الغربية، وأبرزها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا، كانت تقليدياً مؤيدة لإسرائيل بشأن قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنّ الهند لم تكن كذلك، ولهذا فإنّ امتناعها عن التصويت يمثّل تحولاً كبيراً للغاية في موقف البلاد بشأن قضية لها أهمية كبيرة، وذلك بعد عقود طويلة، كان موقفها فيها محايداً بثبات، بل كان مؤيداً للفلسطينيين في ما يتعلّق بالقضايا الإنسانية.
وقالت وزارة الخارجية الهندية إنّها لم تصوّت لصالح القرار، لأنّ النص فشل في الإدانة بشكل صريح لهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل الذي شنّته حركة المقاومة حماس على إسرائيل. وقد قُوبل هذا التفسير بالتشكّك والسخرية في الهند، حيث أشار العديد من المنتقدين إلى أنّه كان من الممكن أن تصوّت البلاد بسهولة لصالح القرار، بينما تعرب أيضاً عن مخاوفها بشأن عدم وجود إدانة واضحة للهجوم على إسرائيل.
ورأى العديد من النقاد أنّ العلاقة الوثيقة التي يتمتّع بها رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، مع نظيره الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تؤثر في القرار.
التصوّر السائد أنّ موقف الهند من التصويت يمثل تحولاً هائلاً في موقفها بشأن النزاع الذي طال أمده بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وقد أثار قرار الامتناع عن التصويت انتقادات حادة في جميع أنحاء البلاد. كذلك انتقدت العديد من الأحزاب السياسية الكبرى حكومة مودي لتضحيتها بموقف الهند المستمر منذ عقود بشأن القضية الفلسطينية.
أضاعت الهند فرصة فريدة ليس فقط لإعادة تأكيد موقفها بشأن فلسطين التي تمتّعت معها تاريخياً بعلاقة وثيقة للغاية، بل قد تكون خسرت أيضاً العديد من الدول العربية والإسلامية
في الماضي، دعت الهند باستمرار إلى وقف إطلاق النار، ليس فقط في الصراعات بين إسرائيل وفلسطين، بل وأيضاً في الصراعات الأخرى في الشرق الأوسط. وحتى في الحرب بين أوكرانيا وروسيا، امتنعت الهند باستمرار عن انتقاد أيّ من الجانبين، ودعت مراراً وتكراراً إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى الدبلوماسية في محاولة لإيجاد حل سلمي للصراع، الذي استمر لأكثر من عام ونصف، ولا يزال.
وعلى الرغم من أنّ روسيا كانت تقليدياً حليفاً أقوى بكثير للهند من أيّ دولة أخرى، بما في ذلك الدول الغربية وإسرائيل، فإنّ السلطات الهندية لم تتردّد في الدعوة إلى وضع حدّ فوري للعنف في الحرب على أوكرانيا.
ومن ثمّ فإنّ التصويت لصالح القرار المتعلّق بغزة كان سيتوافق إلى حد كبير، ليس فقط مع موقف الهند بشأن العديد من القضايا الدولية، بل أيضاً مع مشاعر كلّ دولة نامية أخرى تقريباً، وهي مجموعة تتألف من 120 دولة تطمح الهند إلى قيادتها، مع بعض الدول النامية.
وأيّد كلّ عضو آخر تقريباً في تلك المجموعة المكوّنة من 120 عضوًا الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ولم يكن على الهند أن تأخذ زمام المبادرة في تعزيز تصويت الكتلة فحسب، بل كان عليها أيضًا أن تقدّم أيّة تعديلات ملموسة على القرار.
وجاء هذا الامتناع في التوقيت غير المعقول وغير المقبول بعد أسابيع قليلة من استضافة الهند لقمة ناجحة إلى حدّ ما لدول مجموعة العشرين في نيودلهي. ومن خلال امتناع الهند عن التصويت على قرار الأمم المتحدة بشأن غزة، أضاعت فرصة فريدة ليس فقط لإعادة تأكيد موقفها بشأن فلسطين التي تمتعت معها تاريخياً بعلاقة وثيقة للغاية، بل إنّها أيضاً قد تكون خسرت العديد من الدول الإسلامية، ما قد يكون له نتائج سلبية على عقود من العمل الذي قامت به العديد من الحكومات الهندية لتعزيز علاقة أوثق مع العالم الإسلامي، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي.
في الواقع، كان أحد أكبر نجاحات السياسة الخارجية لحكومة مودي هو علاقتها المتوازنة مع دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، التي بفضلها ازدهرت العلاقات التجارية والاستراتيجية مع كلّ من العالم العربي وإسرائيل على مدى السنوات العشر الماضية أو نحو ذلك.
لذا، فبدلاً من الامتناع عن التصويت، كان من الواجب على الهند أن تختار توجيه انتقادات حادة للعنف المفرط الذي أطلقته إسرائيل في غزّة، والذي استمر لأكثر من شهر.
ويبدو أنّ الهند قامت بدرجة معينة بتصحيح المسار في تصويت لاحق في الجمعية العامة، حيث انضمت إلى 144 دولة أخرى في توجيه توبيخ حاد للسياسة الإسرائيلية بشأن المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولكن لا ينبغي للهند أن تكتفي بهذه الإدانة، ويمكنها بالفعل أن تأخذ زمام المبادرة من خلال محاولة إقناع القيادة الإسرائيلية بأنّ هدف الدمار الشامل في غزّة من غير المرجح أن يؤدي إلى إحلال السلام في المنطقة، بل لن يؤدي إلّا إلى تأجيج المشاعر المعادية لإسرائيل في فلسطين والدول العربية الأخرى، مع ما يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة على إسرائيل.