النضوج الأعلى.. حفلة شواء
"لا تعترف بالحريق الذي في داخلك، ابتسم وقل إنّها حفلة شواء". (فيودور دوستويفسكي)
النضوج هو نضوب العشوائية، معتقداً وقولاً وفعلاً، وهو فنّ توجيه الطاقات الروحية والعقلية والعاطفية والسلوكية والجسدية نحو مسارها السليم والصحي، ما يجعلك متكيّفاً مع الأنا والآخر والله والقدر. والنضوج ليس له عمر محدّد، ولكن زخم الخبرات هو المهمّ لتكون ناضجاً بالفعل. وهذا الزّخم قد نعبّر عنه "بحفلة شواء"؛ أن تحترق روحك لتدرك الواقع والمثال، الحقيقة والوهم، الحقّ والباطل. هذا الزّخم عملية مستمرّة في كلّ مرحلة انتقالية من حياتك، وكأنّه حفلة شواء في العطلات الأسبوعية. في كلّ خطوة على هذا الطريق، يكتسب الإنسان الخبرات والتحدّيات التي تساهم في تشكيل شخصيته وإثراء روحه. حفلة الشواء تصبح رمزاً لتلك التحدّيات والتجارب التي تحمل في طيّاتها أسرار النضوج.
عليك أن تتحمّل هذا القدر من النّار والدّم ورائحة اللّحم المحروق لتحافظ على غريزة البقاء؛ أن تجعل عقلك يفكّر فيما هو أسمى من التجربة، أي البقاء حيّاً لأطول فترة ممكنة، وأن يتغلّب على ظروف من شأنها أن تحطّم الإنسان العادي (غير الناضج)، لتحقّق غاية النضوج الإنساني الأعلى. فعندما يمرّ الإنسان بتلك الحفلة، يخوض تحوّلاته الداخلية وتحوّلات المعنى الخاصّة به ويستمرّ في تحليقه نحو النضوج الأعلى. رغم النيران ورائحة اللّحم المحروق، يظهر القوة الداخلية والتحمّل الذي يميّز الناضج. فالعقل الشجاع يواجه التحدّيات بحكمة، والروح المتسامحة تفهم قيم الحياة والإيمان.
كيف تعرف نفسك ناضجاً نضوجاً أعلى بعد حفلة الشّواء تلك؟ إليك مستويات النضوج الديناميكية التي تعمل جنباً إلى جنب مع تقدّم أو تأخّر في مسار تطوّرها الزمني، كما لكلّ مستوى علامات ودلائل، لا يمكنك أن تتيقّن من تحقيقها إلا بتوافر العلامات، أو توافر عدد كبير منها، وللنضوج الأعلى علامات متى توافرت في شخص يمكننا أن نقول عنه إنّه ناضج، ومتى لم تتوافر كاملةً لم يكن ناضجاً بما يكفي، بل نامياً وواعياً بما يكفي:
روحياً: مدركاً لوجود خالق الأكوان، متسامحاً مع الأديان، مختاراً لدين ما لتستطيع التعبير عن إيمانك من خلال العبادات في ذاك الدين، الشعور بحاجة ملحّة لإعادة قراءة دينك قراءة معاصرة تتناسب والعصر (أبديت)، متسامحاً مع القدر وممتناً له في نهاية المطاف.
النضوج ليس له عمر محدّد، ولكن زخم الخبرات هو المهمّ لتكون ناضجاً بالفعل
عقلياً: أن تتمتّع بخصال الشجاعة، الاعتدال، التسامح، الجمال، الشّهامة، الطموح والشرف والمجد والكبرياء، الصدق، الذكاء والحنكة، الودّ، التواضع، السّخط لتحقيق العدالة، الذكاء، العلم، التفاهم الودّي، الفهم، الحكمة النظرية والعملية، العفّة، الخير والكرم والتضحية، الاجتهاد، اللّطف والرضا، الانضباط وضبط النفس، الفراسة، الشعور بالانتماء لتيّار أو لحزب أو لقومية أو لمدرسة فكرية ما.
عاطفياً: قادراً على؛ قبول الذات والآخر، الثقة بالذات والآخر، حبّ وتقدير ورعاية الذات والآخر، احترام الذات والآخر، المرونة مع الذات والآخر، إنتاج ردات أفعال بشكل يتناسب مع الشّخص والمكان والزمان، أن تكون صلباً ومتكيّفاً مع الأزمات، أن تتأثّر وتؤثّر بالآخرين بشكلٍ إيجابي ومندمج معهم وفق طبيعة خاصّة.
سلوكياً: أن تكون قادراً على التواصل مع الآخر بشأن التعبير عن حاجياتك ورغباتك وتفضيلاتك دون تملّق أو مداهنة، في الوقت والمكان المناسبين، وأن تكون قادراً على فهم حاجيات الآخر ورغباته وتفضيلاته دون تجاهل أو لامبالاة، مع القدرة على قطع الوعود له وتنفيذها.
العقل الشجاع يواجه التحدّيات بحكمة، والروح المتسامحة تفهم قيم الحياة والإيمان
جسدياً: مدركاً لطبيعية الأجساد، وتكيّف كلّ طبيعة مع بعضها، مدركاً نقاط الضعف والقوة في الأجساد، مدركاً حاجات ورغبات وتفضيلات كلّ جسد، مدركاً أنّ الجسد وعاء الروح وليس العكس، وانطلاقاً من ذلك تستطيع أن تتقبّل جسدك، وأن تكيّف كلّ ما يخصّ الجسد من قضايا وممارسات لتكون منسجمة مع روحك وشخصيتك.
في ختام حفلة الشّواء التي تمثّل رحلة النضوج، يظهر الإنسان الناضج بوضوح. إنّه الشّخص الذي يجمع بين توازن الروح، وقوة العقل، ودفء العواطف. فالنضوج الأعلى يكمن في تحقيق تناغم روحي، وتطوير فكر متّزن، وبناء علاقات قوية، مع الاهتمام بجسده وعاء للروح. لذا، بينما نتّخذ خطواتنا في هذه الرحلة المستمرّة، يتجلى النضوج في التفاعل الإيجابي مع الذات والآخرين، مما يجعلنا نعيش حياة متكاملة ومفعمة بالحكمة والسعادة.