عن نموذج المؤمن الحزين
في عالمٍ مليءٍ بالتعقيداتِ والأزماتِ الروحية، يظهر "المؤمن الحزين" كظاهرةٍ تُجسّد التعالي الديني والسلوك المضاد للمجتمع، ممّا يخلق جوّاً من التوترِ والقلق، وإلى خلقِ نموذجٍ جديد من الإنسان، نسميه "الإنسان المراهق".
من السمات التي تميّز المؤمن الحزين "السلوك المضاد للمجتمع". والمقصود هنا أيّ تصرّف يُقصد منه الإضرار بالآخرين، مثل التعالي دينياً، القسوة، الأوامر السلطوية التعبّدية، حصر وتضيق الوعود الإلهية.
عناصرُ الإيمان الحزين متجمّعة هنا: الرغبة المتلصّصة على إيمانِ الآخرين حتّى في سرّهم. لم يستطع المؤمن الحزين أن يشعر ببراءته الأصلية. كان دوماً مؤمناً متلصّصاً، يستمدّ من التلصّص على قلوب المؤمنين الآخرين تعاليه وسلطته عليهم (الألوهية الواهمة)، والتلصّص ناتج عن كون المؤمن الحزين لا يعترف في قرارته بحقّ المؤمنين الآخرين في التوبة لأنّه مذنب في ماضيه، ولم يستطع مسامحة نفسه، لذا هو يُسقط عقاب نفسه على المؤمنين الآخرين.
أيضاً المؤمن الحزين ينبذُ العالم كما يحدث، ويلتصقُ بحميمةٍ ورعبٍ بنوعٍ محدّد من المعنى؛ هو ذلك الذي يوجد ما وراء أنفسنا (الغيبيات). المؤمن الحزين هو "إيمان بلا رحمة ولا غاية"، إذ كثيراً ما طغت الطقوسية في العبادة، حتى إنّه لم يعد في الممارسة الدينية لديه من تمييز بين الوسائل والغايات الكبرى، والظاهر والمعنى والجوهري والتفصيلي، فأصبحت كلّ هذه متساوية في قيمتها ومدلولاتها ووظائفها.
جيل بلا انتماء. لا ينتمي أصلًا، لا إلى الأمّة القومية ولا إلى الملّة بالمعنى العقائدي
المؤمن الحزين خلقَ في الآخرين التوتّر والقلق والغربة والشعور بالعبث وانعدام الجدوى من الحياة، كما خلق إلى جانب ذلك كلّه عند الآخر الحسّاس دينياً، شعوراً بضعف العقيدة الدينية، والافتقار إلى الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي لا يغني عنه شيء. فإنّ حاجةَ الإنسان إلى إشباعِ عاطفته الدينية أمر لا ينقطع. من أجل هذا كلّه ظهر العبث والغثيان والتمرّد واللّامعقول والشعور بالغربةِ والاهتمام بمشكلةِ الشرِّ والبحث عن مبرّراته وأسبابه.
لذلك الجيل الجديد؛ جيل بلا انتماء. إنّه لا ينتمي أصلًا، لا إلى الأمّة (القومية) ولا إلى الملّة (بالمعنى العقائدي). جيل لا ينتمي إلّا إلى جسمه الحيوي وأدوات بقائه التكنولوجيا الفائقة. وقد تحوّل الدين الحزين (الطقوسية) إلى عملية إلهاء نسقي للشباب، يقطّعهم عن نموذج الشاب الثوري الذي يرغب بالتغيير، والاستعاضة عنه بنموذج "المراهق" طويل الأمد الذي يرغب باللّعب بالأدوات التكنولوجية.
لذا كان على "المراهق" أن يشكّل نفسه بنفسه، وإنشاء روابط تمكنّه من التفاعل مع بقيةِ العالم البشري، مستعينًا بالتكنولوجيا وبراعته فيها. فنجد أنّ علاقته مع الآخر تتحوّل إلى نوعٍ من الصراع والعراك، وتتشكّل عناصرها من الغضبِ والحنق والوعيد والانتقام والترقب والقلق والانتظار والشوق والخيبة وتحليل النفس والمطاردة والخجل والذهول والشرود والحيرة والأحلام والأوهام والوجوم والارتباك والندم والتمثيل والتصنّع وحياكة الكذب والمكر والتعقّب وتحمّل مرارة الصبر والخيانة وبيع الجسد والتلثّم بقناعٍ زائف من الأدبِ والوداعة والاستغلال والخوفِ من الفضيحة والرغبة الوحشية والعناد والتعذيب والاستهتار والحذر والتوجس وكبت المشاعر والنضال البهيمي. وكثيراً ما تنتهي هذه العلاقة مع الآخر بفشلٍ مأساوي تتركُ أثاراً عميقة وفراغاً مروّعاً في النفس.
سلوك "المؤمن الحزين" وسعيه للتلصّص على إيمان الآخرين وقسوته في فرض الطقوسية الدينية قد خلقَ حالةٍ من التوتّر والقلق والانفصال في المجتمع
إنّ عمق عجز "الإنسان المراهق" واستعداده للانضواء تحت راية المنتصر، بعد تجرّعه للذل والمهانة والفشل، يدفعه إلى التسليم. وحين لا يذعن "الإنسان المراهق" خوفاً من العقاب وعن طريق الترهيب، فإنّه يذعن في آخر الأمر لسحرِ الخلودِ الأخروي، أي عن طريق الإغراء والترغيب بدنيا علوية. وهو يتوصّل إلى هذه القناعة، لأنه كما قال أحدهم: "نخاطر بأرواحنا في سبيل قضية خاسرة"، لذا يتمسّك بهذه القناعات من منطلقٍ ديني يحدّد له مصيره الحتمي، مؤكّداً لنفسه قبل غيره أنّ إرادة الله فوق كلّ إرادة وما علينا إلّا الرضى.
وأخيرًا، يمكن القول، يتوجّه "الإنسان المراهق" إلى "المؤمن الحزين" فما على الأخير إلّا أن يغرقه بطقوسيةٍ دينية، وما على "الإنسان المراهق" إلّا اللجوء للتكنولوجيا التي تعيد كرّة الاغتراب والتفكّك؛ "وداوني بالتي كانت هي الداء". نجد أنّ سلوك "المؤمن الحزين" وسعيه للتلصّص على إيمان الآخرين وقسوته في فرض الطقوسية الدينية قد خلقَ حالةٍ من التوتّر والقلق والانفصال في المجتمع. هذا النمط من الإيمان، الذي يفتقر إلى الرحمة والغاية الحقيقية، ساهم في نشوءِ جيلٍ جديدٍ يتّسم بالاغتراب عن القيم التقليدية، متشبثًا بالتكنولوجيا وأدوات البقاء الحديثة كوسيلة للتفاعل مع العالم.