المضحك المبكي (3)

24 نوفمبر 2019
+ الخط -
استهل أبو ماهر جلسة "الإمتاع والمؤانسة" بأنْ وَجَّهَ إلينا سؤالاً عن سبب ولع الأنظمة الديكتاتورية بالتضييق على الأدب والفن والثقافة والصحافة واهتمامها الشديد بالرقابة على الفكر. رد عليه الأستاذ كمال بقوله:

- شوفْ يا أبو ماهر. لو كانْ أي واحدْ من هالأنظمة واصلْ للسلطة بشكلْ شرعي ما كان في أيّْ داعي للتَشَدُّدْ بالرقابة عَ الفكرْ والفَنّْ والإبداعْ، لاكنْ كلهم بلا استثناءْ اغتصبوا السلطة بالقوة، وحكموا بلادْهم بالحديدْ والنارْ. تَعَالْ هلقْ وتفرج عَ الصحفْ والمجلاتْ والمحطات التلفزيونية في الدول الديمقراطية، وراحْ تندهشْ من كمية الانتقادْ والمسخرة والتَقْرِيْقْ على رؤساءْ الجمهورياتْ ورؤساءْ الحكوماتْ والوزراءْ والشخصياتْ العامة في بلادهم.. وهاي الشخصياتْ الكبيرة ما بتهتمّْ كتيرْ للموضوعْ، لأن الواحدْ منهم جاية بنتيجة عملية ديمقراطية كبيرة، ومُنْتَخَبْ لمدة أربعْ سنواتْ، مثلاً، وما في قوة على وجه الأرضْ بتخلّيه يمشي قبلما يخلصوا الأربعْ سنواتْ، إلا في حالاتْ استثنائية، يعني لما بتحصلْ فضائحْ بتأثّرْ عَ الأمن القومي للبلدْ، وما بيحصلْ هالشي إلا ضمنْ آلياتْ معقدة.

قال أبو زاهر: هادا الكلامْ صحيحْ مية بالمية. وأنا بظنّ إنه الدولة العربية الوحيدة اللي فيها إعلامْ حر هيي لبنان، ومع هيك بلشتْ الممارساتْ الديكتاتورية تظهرْ في لبنان تدريجياً بسبب النفوذ الكبير للنظام الفاشستي الإيراني عبر ميليشيا حزب الله، والإعلام اللبناني الحر نفسه صارْ يسمحْ لبعض السياسيين بأنهم يحكوا أشياءْ بتدلّ على العنصرية متل تصريحات جبران باسيل.. حتى مرة في مواطن لبناني انتقدْ حسن نصر الله، وتاني يوم أجبروه يعتذر، واشترطوا عليه ما يعتذر لحسن نصر الله شخصياً، إنما لصَبَّاطُه.


قال كمال: برأيك الإعلامْ لازمْ يمنعْ عرضْ الأفكارْ العنصرية والإعتذارْ؟ يا سيدي بمجردْ ما يبلشْ المَنْعْ، ما عاد اسمه إعلامْ حر.

قال أبو محمد: طولوا بالكم شوي. لا تنسوا إني نحنا ما منفهمْ كتيرْ بهاي الأمورْ تبع الصحافة وما صحافة. إنتوا وعدتونا تحكوا لنا عن الشغلات اللي صارتْ في سورية.. أنا بشوف إنه الحكاياتْ بتنفهم أكترْ من هالشروحاتْ.

قال كمال: أبو محمد عم يحكي صح. أنا مستعدّْ إحكي لك حكاية عن هالموضوع فيها كتير أشياء (مُضْحِكة مُبْكِية). في سنة من السنين يا شباب كان الصحفي ياسين رفاعية مكلف بكتابة مقالتين أسبوعياً، وحدة لصحيفة الحياة اللي بتصدر في لندن، ووحدة لجريدة البعث اللي بتصدر في قلب العروبة النابض دمشق. وكان ياسين بيعرف إنه في الشامْ في حكم ديكتاتوري شرسْ اللي هوي حكم حافظ الأسد، بينما الصحيفة اللي بتصدرْ في لندن، حتى لو كانت ممولة من دولة عربية، فيها هامش حرية جيد. ومرة من المراتْ حصل ياسين على كتاب تراثي صادرْ في العصر العباسي، يعني من ألف سنة، وعمل للكِتَابْ مراجعتين، واحدة لجريدة البعث ووحدة لجريدة الحياة. ومن سوء الحظ خَرْبَطْ ياسين بين المقالتين، وبَعَتْ المراجعة اللي فيها هامش حرية أوسع لجريدة البعث!

قال أبو زاهر: حتى ولو خَرْبَطْ، الرقابة الموجودة في جريدة البعث بتحلّْ المشكلة، وأنا متأكد أنهم بكل بساطة راحْ يرفضوا المقالة وينزلوا مكانها مقالة تانية أو إعلانات تجارية.
قال كمال: صحيح تماماً. لاكن سوء الحظّْ استمرّْ يلعبْ دورُه بهاي القضية. المْكَلَّفِيْنْ بمراقبة المقالات كلهم بيعرفوا إنه ياسين رفاعية كاتب محترفْ ومستحيل يغلط هيك غلطة، لذلك ما كتيرْ بيدققوا على مقالته، وتاني شي موضوع المقالة هوي مراجعة كتاب تراثي، والكتب التراثية مسموح فيها وبيتمّْ تَدَاوُلْهَا في كل الدول العربية والإسلامية بدون أي رقابة. المهم المقالة نشرتْ. ولحد هون الأمر طبيعي.

قال أبو محمد: بالفعلْ طبيعي. وأنا مستغرب إنه يصيرْ في مشكلة.

قال كمال: صارتْ مشكلة كبيرة كتير. السبب إنه كان في ضمن مقالة ياسينْ فقرة عادية، منقولة من الكتاب التُراثي حرفياً.. لاكنْ أحد المخبرين قرر إنه هالفقرة فيها إساءة للدين الإسلامي الحنيف! والغريب في الأمر إنه هَالمُخبر ما بيشتغلْ عند أجهزة المخابرات السورية، وإنما عند واحد من المشايخ اللي بيعتمدهم حافيييظ في نظام حكمه، وخلينا نسميه (سين). المخبر أخدْ الجريدة بعدما حَطّ خطوطْ حمرْ عليها، وسلمها للسيد سين. ومن سوء الحظ كمانْ، إنه كان في مناسبة دينية قريبة، وهاي المناسبة بيروح فيها حافيييظ على الجامع، وبيلتقي بالمشايخ، وعلى رأس هالمشايخ كان السيد سين.. وخلال المناسبة التفت سين على حافيييظ، وحكى له القصة، وناوله قصاصة الجريدة اللي ارتكبتْ هالغلطة الكبيرة. مين بيحزرْ شو عمل حافيييظ؟

قال أبو الجود: أكيدْ حبسه للكاتب. أو أحاله عالقضاء.

قال كمال: أكيدْ إنته ما بتعرفُه لحافيييظ يا أبو الجود. يا سيدي أمرْ بزجّ كلّ الموظفين في جريدة البعث اللي إلهم علاقة بنشرْ المقالة في السجن، بما في ذلك المساكين عمال المطبعة. هون في شغلة تانية لازمْ أوضحْ لكم إياها. وهيي إنه حافيييظ بحياته ما سجن مواطن سوري لمدة معلومة. السجن عند حافيييظ دائماً إله بداية وما في حدا بكل العالم بيعرف نهايته. وللعلم إنه هادا الخطأ (إذا اعتبرناه خطأ بالفعل) بيحصل بكل صحف العالم، بشكل يومي، وما حدا بيقول للموظف اللي أخطأ (ما أحلى الكحل في عينك)، وبعض الموظفين المساكين اللي أمر حافيييظ بسجنهم بقوا في السجن أكتر من سنتين!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...