المسجد... ساحة عبادة أم ساحة للثورة؟
لم يكن المسجد في المجتمع المسلم الأوّل مجرّد مكان لأداء العبادات المختلفة فحسب؛ بل كان أشمل من ذلك، إذ كان له دورٌ كبيرٌ في جميع مجالات الحياة: في العبادة، والعلم، والدعوة، والأخلاق، والمعاملات، والفتوى، والسلم، والحرب، واستقبال الوفود، وإعلان السياسة العامة للدولة. والوظيفة الحقيقية للمسجد في الإسلام هي إعداد المسلم المتكامل البناء في خلقه وسلوكه وعمله وعبادته، في علاقته بربه، وبنفسه، وبأخيه المسلم، وبالناس جميعاً.
وعليه، فإنّ المسجد ليس ساحة عبادة بل ساحة للثورة؛ العلاقة مع الله في مساجدنا الآن علاقة فردية أنانية، وعليها تُبنى أمجادنا، في حين كان من الأولى أن يأخذ المسجد دوره الاجتماعي والتربوي في الحي والمنطقة ومراكز التأثير ذات الصلة.
رغم أنّ الصلاة جماعة إلّا أنّها ذات طابع ليبرالي فردي من حيث المفهوم والتأثير والتكوين؛ بمعنى أدق المصلّي يصلي لتأدية علاقة فردانية مع الله بمعزل عن العلاقة الكلية بين المصلي ومجتمعه، فالعلاقة مع التشريع كلية غير مجتزأة. فمثلاً، إنّ المصلّي في المسجد يتحوّل إلى جندي الرب؛ وفي الواقع هو جندي جماعة فردية ما تطعن في مذهب آخر، ولمّا يخرج بعض المصلين من المسجد يمارسون (بعضهم) سلوكيات متناقضة مع جوهر الصلاة. وعلى الرغم من كلّ الدروس الدينية التي تُقام في المسجد إلّا أنّها دروس فارغة؛ متون عُزلت عن سياقها التاريخي والاجتماعي وحُوصرت بالصحيح من الصرف والنحو والإعراب، فغدت باهتة المعنى، منمّقة المبنى، ضعيفة التأثير، ومن يسمعها كأنّما سمع نجوى الأحاديث، فلا يلمع نجم المصلي في مجتمعه!
الصلاة تعني الدعاء، والدعاء يعني تغيير المصير
أضف إلى ذلك، أنّ الإمامة في أغلب المساجد من مجتمع "الختيارية"، حيث الروح الانبطاحية تأخذ مساجدنا إلى جدّنا... "الختيار" هنا ليس حكيماً بل ضعيف، والشاب ليس متهوراً بل شجاع؛ يحلم بالتغيير، على الأقل في حيّه ومنطقته.
المصلّي صلاة فردية لا يصنع أمجادنا، فالصلاة الاجتماعية هي ما كان للمسجد من دور فاعل في المنطقة، من تعليم، وتوعية، وتثقيف؛ روح دينية متكاملة تعلّم الناس مهارات الحياة ولا تعدم الأرض لأجل السماء!
ولن ندخل في المذاهب الدينية، فكلّ المذاهب وقعت في شراك الليبرالية الدينية، والمسجد موضع اشتراكي يشترك فيه الناس على التغيير، والصلاة تعني الدعاء، والدعاء يعني تغيير المصير، في حين أنّ الصلاة الفردية المجرّدة من الروح الاجتماعية تعني دع أمانيك للرب دون سعي لها، في حين أنّ المصلّي التغييري يقاتل لأجل أمانيه، وأمانينا ليست شخصية بل ثورية... وليس منطلق الثورة هنا دينياً ولكن استخدام الدين في خدمة الحياة العادلة وليس العكس كما فعلت الليبرالية، عندما "أفينت" الشعوب.
ولا يعتقد أحد أنّ المسجد هنا ساحة معركة، بل ساحة تغيير سلمي بواسطة العلم، والمعرفة والتربية، أما الراديكال، فللرفاق ميادينهم الخاصة، بعيداً عن المسجد مع أنّ المسجد يهيّئ لهم العجينة الحمراء لذلك.
المصلّي يصلي لتأدية علاقة فردانية مع الله بمعزل عن العلاقة الكلية بين المصلي ومجتمعه
فإذا أردنا التغيير الاجتماعي فلينطلق من المسجد، فالعبادة لم تكن يوماً ذلّ الحياة وشظف العيش، ولا تعني أن تصلي ومسجدك محاصر بالفقر، وسوء التوزيع، والغبن، والظلم، فإن حصل ذلك فهو من الضعف؛ "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".
ولا يعني ذلك الإكثار من المساجد والإسراف في زخرفتها، فنغرق في "رأسملة" العبادة أكثر، يكفي عدد محدود من المساجد مع سياسات وأطر واضحة ومنظمة تشترك فيها على معاناة وأهداف واضحة بدلاً من دخول في اصطفافات وانقسامات عقائدية لا تسمن ولا تغني من جوع في عزّ الجوع!
المسجد إن صح التعبير هو فم لابتلاع أنظمة" أفينة" الشعوب التي تغرقهم في الظلم والهوان، وتعمل على تضخيم المذاهب الدينية لأجل سندات أخروية.. المسجد علامة اجتماعية فارقة في الحياة المدنية؛ فهو أنشئ ليعلّم الناس الحياة وليس الموت أو الحياة البرزخية، المسجد ما أسجد الحياة أمام المواطن. وبهذا، يكون المسجد قد شارك في بناء الإنسان اشتراكياً من خلال ما يزرعه في نفسه عند الوجود في المفهوم المسجدي الذي أشرنا إليه جرّاء التردّد إليه.