المزاج يحكم الإبداع ويقوضه
القرارات والتشريعات الحكومية ما هي إلّا حصيلة المزاج النفسي للشعب، كي لا نَتخندق كمُتَّهم وضحية، وعلينا أن نعترف في لحظة صدقٍ ومصارحةٍ مع النفس، أنَّ الدكتاتورية النفسية التي تتلبَّسنا بقوة وتقودنا إلى تحطيم كلِّ إبداعٍ وتَفرُّد، هي تراكم تاريخي لأحداثٍ لا تخضع لسياقٍ منطقيٍّ مدروس أو منهجية عمل مخطَّط لها، بقدر ما تُحرِّكُها نزواتُ حُكّامٍ وتَمرُّد أفراد، وهذا ما يَجعلنا نستبطنُ ردَّ فعلٍ أشبه بالبركانِ الخامد، يَربُضُ في اللاوعي ويدعونا إلى تهميش وقتل كلِ إبداعٍ وتَميُّز وجمال، وهي الأُسسُ التي يرتكز عليها أيُّ صرحٍ حضاري، ونحن لا نُسوِّقُ هذا الكلام جُزافاً، فتاريخُنا المُضطربُ يَعجُّ بشواهد تُؤكِّدُ ذلك.
فحينَ لَمعَ نجمُ الشاعرِ المُتنبّي، بدأتِ الحراب تُوجَّهُ إليه من كلِّ صوبٍ والاتهاماتُ تنهالُ عليه منها (ادِّعاءُ النُبوّة) و(الانتماءُ للقرامطة) و(التَكبُّرُ والغرور) بل وحتى السُخريةُ من مهنةِ والده ومناداته بابنِ السَقّاء، مما اضطرَّهُ إلى أن يتركَ العراق كالهارب.
وهذا ما حصل أيضاً للمُفكِّر الكبير هادي العلوي، الذي وضع شروحاً طويلة ومقارنات من طراز فريد استطاع أن يجمع فيها بين المنهج المادي التاريخي والتراث العربي الإسلامي.
قال عنه المفكر جان بيرك إنه أحد أخطر عشرة مفكرين في القرن العشرين ووَضعهُ بموازاةِ فوكو وبرتراند رسل وبول سارتر، وكان هادي العلوي زاهداً يرفض بيع كتبه التي غَزَتْ مكتبات العالم وعاش في المنفى فقيراً ودُفن في دمشق غريباً.
أما عالم الاجتماع علي الوردي وبعد صدور كتابه (وعّاظ السلاطين) اتُّهِمَ من قبل رجال الدين بالإلحاد وجَرَّدتهُ السُلطة من لقبِ أُستاذ مُتمرِّس وسُحِبَت كُتبه منَ المكتباتِ بدعوى السلامة الفكرية مروراً بتهميشه وإفقاره مادياً إلى أن توفي عام 1995.
وفي عالمِ الفن سأحجم عن ذكر اسم مطرب يختزنُ في صوته الخَصب المعبِّر سلسلة عذابات الوجع الفراتي بقدر ما تتنسَّم منه أنفاس النخيل وعطر حقول الجنوب، هذا الفنان تظافر عليه الشعب والحكومة بالجرح والتنكيل واتهامه تهماً يندى لها الجبين وبنكتة سَمِجَة تُدار على الشفاه دون حياء.
ففي إحدى مقابلاته قال والحسرة بادية على وجهه.. أنا نادم أشد الندم على دخولي عالم الفن، وحاولت السلطة أن تحتفظ به في أدراجها ولخدمتها فقط لكِنَّهُ وبِحسِّهِ الفريد وروحهِ التوّاقة للحرية، عَرف أنَّ الإبداع لا يثمر إلّا في مرابع الحرية، فغادر العراق دون رجعة بعد أن تعرَّضَ لمحاولةِ اغتيال.
وتَجدُ المزيد من المبدعين والعباقرة العراقيين مُشتَّتين في أصقاع الأرض يصنعون الحياة والحضارة في الغربة فالعُظماء يُولدونَ من رَحم المعاناة ولكنهم منبوذون في بلدهم. فَنَجِد أنَّ أغلب هؤلاءِ العُظماء ضحية المجتمع البائس الذي أراد هذا العظيم إصلاحه. ولثورةِ الفكرِ تأريخٌ يُحَدِّثُنا بأنَّ ألف ألف مسيحٍ من دونه صُلِبا.
إذاً، لا نستطيعُ أن نتوقعَ من مجتمعاتٍ تمدحُ الطغاةَ غيرَ تقويض الآخرين. فالإبداع لا يُثمِرُ إلّا في مرابع الحرية، فهو لا يتناسب مع الرعاع بل هو فوق إدراكهم، فالكلُ مع القطيع، لا تريد أن تخالفه، فنحنُ مدّاحون وقدّاحون في نفس الوقت، فالمزاج له دور فعّال في ذلك. لقد تعوَّدنا وورثنا سكون الصحراء والأفكار الجاهزة كي تُريحَ أدمغتنا من وخز الفكر.
إنَّ الأنانيّةَ الغريبةَ المستوطنةَ فينا تجعلُنا شريكاً في مقاتلة المبدعين، فَسُرعةُ ردِّ الفعل وتَحكُّم العاطفة لدى العراقي ونبذه للتأمل والتركيز والاستغراقُ في الذاتِ يجعل منه دكتاتوراً بالفطرة.
فَنُلاحظ الكثير من النُقّاد في الندواتِ الأدبية يسعى لتحطيمِ الكاتب أكثر من ترميمِ نَصِّهِ، لذا فالنقدُ عندنا غيرُ بنّاء، لأنَّ الجمهور محكومٌ عليهم بعقليةِ القطيع الثابتة، لذا يحاربون كلَّ ابتكار وخروج من دائرة الغباء.