العقل العربي بين النقل والإبداع
علينا أن نسلّم بأنّ العقل العربي تُسيطر عليه قِوى نابعة من أعماقِ التاريخ، تُرغمهُ على الدخول في اتفاقياتٍ لاإراديّة، بحيث يغدو المفكّر أو الكاتب أسيراً للغةٍ تفرضُ عليه مُفرداتها، نسقاً تعبيرياً محدّداً، وهذا يستدعي تحجيم وتهميش البُعد الفلسفي.
وضمن هذا السياق، لو رصدنا تاريخ الفكر العربي، لوجدنا أنّ المنقول القائم على الرواية، والذي تتحكّم به الميولُ والأهواء ولغة المنتصر، هو المهيمن والفاعل. وحتى التباين والاختلاف (إن وُجِد) يجب أن يكون ضمنياً، أي لا يتعدّى حدود النص، وإلّا سيُرمى بالبدعة والتطاول، لذا يُشار لكلِّ مبدعٍ ومجدّدٍ بإصبعِ الاتهام، حيث تمّت تصفيّة الكثير من المبدعين من قبل الخلفاء والولاة الذين يتحصّنون بالوعاظ الذين يضفون الشرعية على أفعالهم، عن طريق إلباسها رداءَ الشريعة الفضفاض.
واستخدمَ الولاةُ والسلاطين طُرقًا مختلفة للتخلّص من أصحاب الفكر والإبداع، منها تصفية المعارضين وإلصاق شتّى التهم بهم. وأمام هذا الاستبداد، بقي العقل العربي يدورُ في دائرةٍ مُفرغةٍ حتى العصور المتأخرة، فارتمتْ نخبة من المثقفين في أحضان الفكر الغربي وفلسفته التي توفّر مساحة شاسعة وحرّة للتعبير، بعيداً عن كوابح الواقع العربي، لكنّهم وقعوا في فخ الثقافة الببغائية، فهم يكرّرون ويتبجحون بأفكار غير مستنبطة من واقع بيئتهم، ولا من عمقِ معاناة شعوبهم، وهذا ما يمكن أن نسمّيه الشعور بالنقص الحضاري، ممّا أوجد الاغتراب عند المتلقي العربي وبدأت ملامح الانفصام تتبلور في سلوكيّاته التي تنشد الحضارة الحديثة، لكنها تبقى مشدودة إلى الماضي بقوّة الواقع المُعاش وتفاصيل البيئة.
المنقول القائم على الرواية، والذي تتحكّم به الميولُ والأهواء ولغة المنتصر، هو المهيمن والفاعل
وبهذا الحال، تكون الثقافة الببغائية مجرّد حالة هروبية من خواءٍ فكري إلى رؤى لا تتعايشُ مع بيئةٍ مختلفة، ممّا يؤدّي إلى الاختلال والتنافر والضياع، وكأنّها أشبه بمخدّرٍ مريح ليس فيه وخز الفكر الذي يحتاجه المجتمع العربي الذي لم يُمنح الحريّة للتعبير المطلق عن آرائه وأفكاره، فبقي يدورُ في خريطةِ طريقٍ وُضِعت له مسبقا، لا يُسمحُ له الخروج منها. وما زلنا نعيش في الماضي، مع النقل والنسخ، ودون استخدام العقل، ونظنّ أنّ ما جرى في الماضي هو أحداث واقعيّة مائة بالمائة، ولا تقبل الشك. لذلك التجأ المثقف العربي إلى الثقافاتِ الأخرى، ليجدَ له متنفّساً ممّا يعيشه من تكرارٍ وتقليد. ولعلّ ما مرّ به الشعر العربي من مراحل يعكس هذا الأمر، إذ عاش (الشعر) ما بين الصدر والعجز والتفعيلات والبحور الشعرية، وكان من يُخالف ذلك يُنعت بكلّ النعوت، وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء بعض المحدّثين الذين تأثّروا بالثقافاتِ الأخرى، وقالوا إنّ الخروج من الصيغة القديمة يمنحه القدرة على التعبير عن المشاعر والأفكار بسلاسةٍ أكثر.
ولو أمعنّا النظر في أعماق التاريخ لوجدنا أنّ جُلّ ما كُتِب يتماشى مع مزاج السلطة الحاكمة، حتى غدا كلّ مفكر ومجدّد خارج السرب، غريباً، منبوذاً، متهماً بشتى التهم وأبشع النعوت.
وفي النهاية، يمكن القول إن من يرتضي العبودية لغيره ارتضاها لنفسه، فالنفس الحرّة تأبى العبودية، لكنّنا تربينا على الطاعة المطلقة دون وعي، فافتقدنا البصمة الفكرية، وافتقاد الأخيرة يؤدّي إلى غياب الحضارة برمّتها.