الفوال ذو العضلات المفتولة

28 أكتوبر 2022
+ الخط -

عرجنا، أنا وأبو صالح، في الاتصال الهاتفي السابق، على سيرة التغيُّرات التي طرأت على طبائع الناس، بسبب انتشار التوعية الصحية في المجتمع، فمثلاً، بعدما كان الناس يطلبون من القصاب أن يضع لهم مع اللحم أكبر كمية ممكنة من الدهن (الليّة)، والشحوم، والدرنات، صاروا اليوم يفعلون العكس، فلا تعدم رجلاً يقول للقصاب:

- بعد أمرك أبو فلان، قلل لي من الدهون، لأن بتحليلي الأخير طلعت معي الشحوم الثلاثية مرتفعة، والكوليسترول واصل للحد الأقصى.

قال أبو صالح: كلام صحيح 100%. كان الناس يعيشون على تيسير الله، ومن يموت يترحمون عليه، ويقولون هذا أجله. أصلاً، مخابر التحليل التي تقيس الشحوم والكوليسترول لم تكن معروفة من قبل.

- أنا، يا أبو صالح، أكبر منك ببضع سنوات، وأذكر تماماً، أن بلدة مثل معرة مصرين، وهي مركز ناحية، وفيها خمسة آلاف نسمة، لم يكن فيها أطباء نهائياً، وكان فيها ثلاث أو أربع سيارات أجرة، أما السيارات الخصوصية فكانت شبه معدومة، فإذا مرض طفل، أو رجل، أو امرأة، كانوا يكمرونه باللحف والبطانيات، ويسقونه مغليَّ البابونج، ويتركونه ينام، حتى يتعرق، معتقدين أنه إذا تعرق لا بد أن ينتفض ويقوم، وإذا لم يقم، يأتونه بضراب الإبر، وهو ممرض شعبي يعتمد على الخبرة فقط، يحمل حقيبة شبيهة بحقيبة المطهر، ملأى بحقن أنتي بيوتيك (مضاد التهاب)، وأخرى خافضة للحرارة، وثالثة لعلاج الجريب والزكام، فيضربه إبرة في العضل، لا بد أن يتحسن بعدها، وفي حالات نادرة يأخذونه إلى المستشفى الوطني بإدلب... وقد سادت، في تلك الأيام، مزحة تراجيدية تقول إن وضع المريض يعتمد على لونه، فإذا اصفرَّ، يكون مصاباً بـ أبو صفار (اليرقان)، وإذا ازرقَّ، يكون قد مات! وعندما يقع ولد، من مكان مرتفع على الأرض، وتنكسر يده، أو ساقه، يأخذونه إلى المجبّر العربي الذي يضع له جبيرة تفتقر إلى الحد الأدنى من التعقيم والنظافة، وتترك في جسمه زمناً طويلاً حتى يلتحم العظم المكسور.. المهم، وتصديقاً، لكلامك، مخابر التحليل، ومراكز تصوير الأشعة، لم تُعرف حتى أواخر الثمانينيات تقريباً، أما الآن فيوجد كل شيء، تصوير طبقي محوري، وإيكوغراف، وصور ظليلة، وحتى الرنين المغناطيسي.

انزعج منه الحمصاني، ورفع يديه الاثنتين نحو الأعلى، وكأنه يرفع الأثقال، قائلاً له بتهكم: نَفَّقْنا!

المهم. وحكينا، كذلك، عن الأكلات المستجدة، ومنها الحمصانة. وقد أصبحت اليومَ نوعاً من المقبلات التي توجد على كل مائدة طعام تقريباً، بينما كان تناولها، في الماضي، نوعاً من التَفَكُّه.

قال أبو صالح: نعم. وكان الإنسان المحب للتَفَكُّه يأكل حمصانة، ويشرب شاياً ثقيلاً (إكرك عجم)، ويضع في كل كأس ثلاث أو أربع ملاعق سكر، لأن الحلاوة هي الدليل على البَسط والكيف. 

- نعم. وكان اسم الحمصانة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفول المدمس. حتى إنك، إذا أردتَ أن تشتري حمصانة، يجب أن تذهب إلى دكان الفوال. وبحسب ما جاء في مسلسل "أيام شامية" الذي ألفه أكرم شريم وأخرجه بسام الملا، فإن ظهور مهنة الفوال (والحمصاني) في دمشق، يعود إلى مطلع القرن العشرين، حيث محمود الفوال، في المسلسل، يقترض نقوداً من أبو عبدو الذي يشترط عليه ضمانة غريبة، هي أن يقص جزءاً من شاربيه، ويرهنه لديه مقابل النقود.

- بالضبط. ولعلمك، ومع تطور الزمن، صار دكان الفوال يبيع الفول المدمس، والحمصانة، والفلافل، وفتة الحمص. وهذه الأكلات صارت تباع مع بعضها، أو كما يقولون (باكيج)، ولو أنك ذهبت إلى دكان الفوال، صباح يوم الجمعة، لوجدتَ الازدحام أمامه على أشده. لأن الأسرة تلتمّ على بعضها في يوم العطلة.

- الحقيقة، يا أبو صالح، أن الحمصانة أكلة لذيذة، وأنا شخصياً أحبها، وأتمنى أن توجد على كل سفرة طعام أمامي. وحكايات دكاكين الحمصانة كثيرة.. سأحكي لك واحدة منها قبل أن ينتهي هذا الاتصال.

- هات.

- كان في إدلب دكان حمصانة، لا أريد أن أحدد مكانه، لأن ما يهمنا هنا هو الحكاية وليس معرفة صاحبها ومكانها. الدكان عتيق، ومهرهر، وفي عمقه توجد برداية كان لونها في يوم من الأيام أصفر، ثم حالَ اللون إلى ألوان غريبة، لا يستطيع الفنانون التشكيليون، مهما تفننوا بمزج الألوان، أن يصلوا إلى مثلها، وإذا سألتني ما هي هذه الألوان، فأنا لا أمتلك جواباً على سؤالك، لأنها ليست من ضمن قائمة الألوان المعروفة. ووراء البرداية كان صاحبُ الدكان يكدس أعدال الفول، والحمص، والبصل الذي تأتيه الرطوبة (فيُشَلِّف)، أي، بلغة المهندسين الزراعيين (يُنتش)، وتخرج منه أغصان صغيرة خضراء غضة، كان بعض الزبائن يطلبون هذا البصل، على نحو خاص، ويتلذذون بقرضه بأفواههم مباشرة دون استخدام السكين، ويعتبرونه أطيب بكثير من البصل اليابس الذي لم (يُشَلِّف) بعد.

بعدما كان الناس يطلبون من القصاب أن يضع لهم مع اللحم أكبر كمية ممكنة من الدهن (الليّة)، والشحوم، والدرنات، صاروا اليوم يفعلون العكس

وكان ذلك الحمصاني رجلاً غريب الأطوار. تراه في بعض الأحيان متواضعاً، ليناً، وفي أحيان أخرى مشاكساً، نزقاً، حتى أنه إذا لم يعجبه الزبون يتشاجر معه، ويقول له: اسمع عمي، اليوم بطلنا نبيع فول وحمص وفلافل. نَفَّقْنا. وبعدما تجاوز الأربعين من عمره، لاحظ أن جسده قد ترهل، ونبق له في وسطه كرش كبير.. وبالمصادفة، سمع من الناس أن الرياضة تقوّي الجسم، وتذيب الدهون والشحوم، فاقتنع، وذهب من توه إلى النادي الرياضي، وسجل نفسه فيه، وحينما أخبروه بأن عليه أن يُجري، بإشراف المدرب، سلسلة من الحركات والألعاب التي تؤدي إلى إذابة الكرش، وبناء الجسم على نحو متناسق، رفض، وقال لهم: أنا لا أحب من الرياضة غير رفع الأثقال، فإما أن تقبلوني فيها، أو أنسحب. فقبلوه، وأصبح، بمجرد ما ينفِّق بضاعته، يقفل الدكان ويذهب من توه إلى النادي، ويبدأ بالتمرن على رياضة رفع الأثقال! وبعد مدة من الزمن أصبح شكل جسمه غريباً جداً: رفيعاً عند الساقين، بديناً وأكرش في الوسط، وذا عضلات مفتولة في منطقة الساعدين والرقبة.

ذات يوم، حضر إلى دكانه رجل من رواد النادي نفسه، هوايته كمال الأجسام، نفخ الرجل عضلات يديه الاثنتين وهو يدوّر أصابع كفيه على هيئة صحن، وقال له:

- بدي صحن حمصانة على كيفك!

انزعج منه الحمصاني، ورفع يديه الاثنتين نحو الأعلى، وكأنه يرفع الأثقال، قائلاً له بتهكم: نَفَّقْنا!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...