الفلسفة والهوية
أثناء كتابتي لرسالةِ الدكتوراه في الفلسفة، وبُعيدَ حصولي عليها، من جامعة بوردو الثالثة في فرنسا، أقمت في إنكلترا واشتغلت فيها عامل بناءٍ لأشهرٍ طويلةٍ نسبيًّا. وكانت ردود فعل زملائي العمال، ورؤسائي في العمل، تتفاوت بين استغراب ممارستي لهذا العمل الذي لا يتناسب مطلقًا مع تأهيلي أو اختصاصي الأكاديمي، أو الحديث الساخر، غالبًا، عن الفلسفة. وبطبيعة الحال، لم يكن لدى أغلب زملائي معرفةٌ (واسعةٌ) بماهيةِ الفلسفة، لكن أذكر أن أحدهم كان يُمازحني أو يسخر من الفلسفة، بإشارته إلى أنّها تتناول أسئلةً من نوع "من أنا؟ (؟who am I). وكان يكرّر هذا السؤال بطريقةٍ كانت تُثير الابتسامة على الأقل، والقهقهة على الأغلب. وعلى الرغم من طرافةِ السؤال الظاهرة، فقد كنت ومازلتُ أعتقد مع فلاسفةٍ كثيرين، من سقراط إلى دريدا وريكور مرورًا بنيتشه ودلتاي وفلاسفة كثيرين، بصعوبةِ الإجابة عن هذا السؤال، وبفلسفيته، وبالحاجة إلى تفكيرٍ وتفكّر، وإلى آخر لمحاورته ومعرفته، من أجلِ سبر آفاق الإجابة عنه.
لم يكن زميلي العامل المذكور مخطئًا في اعتقاده بمركزية هذا السؤال في الفلسفة، وبتعبير هذا السؤال عنها، أو تمثيله لها. ويبدو ذلك واضحًا في اختيار هذا السؤال، سؤال الهُويّة، ليكون أوّل موضوع ﻟ"مدونة "محاورة""، في موقع العربي الجديد، والتي استضافت فيلسوفين عربيين (ماهر مسعود وشريف مبروكي) في إطار خطتها لاستضافةٍ شهريةٍ ﻟ "كاتبين أو كاتبتين يتحاوران/ تتحاوران حول مسألة تهمهما، وذلك في محاولة للاحتفاء بالحوار والاختلاف والرأي الآخر". وعلى الرغم من أنّ "شهادتي في الفلسفة مجروحةٌ"، بمعنيين متناقضين لهذا التعبير، فإنّني أشهد أنّ لا مقاربة إلا المقاربة الفلسفية لمسألة الهُويّة، بمعنى أنّها المقاربة الوحيدة المناسبة لتناول هذه المسألة تناولًا فكريًّا "موضوعيًّا" ورصينًا متناسبًا مع تعقيد المسألة، ومع كونها ليست مسألة واقع تنبغي معرفته فحسب، ولا شعور ينبغي سبره، أو وعي ينبغي امتلاكه فقط، وإنّما هي، أيضًا وخصوصًا، رؤيةٌ معياريةٌ لما ينبغي أو يُراد له أن يكون.
وفي كلّ الأحوال تمثل مسألة الهُويّة إشكاليةً يصعب حسم الجدل بين الثنائيات أو المثنويات المكوّنة لها بجدلٍ أو تركيبٍ إيجابيٍّ، كما يصعب تقبّل أو حتى قبول حالة الجدل السلبي بين الثنائيات أو المثنويات المذكورة. ولهذا السبب، غالبًا ما يتم حسم الإشكالية المذكورة بطريقةٍ تعسفيةٍ وإرادوية وأحاديةٍ. ومع الفلسفة فقط، يمكن الحفاظ على الطابع الإشكالي للمسألة، لكونها تحوِّل الأسئلة إلى تساؤلاتٍ، وتُظهر الإشكاليات المحايثة للإجابات المقدّمة، وتبيِّن عدم إمكانية الركون إليها وإلى كلّ الإجابات الأحادية الاختزالية وهي السائدة والمهيمنة في هذا المجال عمومًا. وهكذا تظهر في الفلسفة إجابات من نوع "الذات عينها آخر" و"الهوية هي الاختلاف" و"الاختلاف هو الهوية". وفي كلّ الإجابات المقدّمة، تبقى المسألة مفتوحةً وغير محسومةٍ أو غير قابلةٍ لأن تُحسم حسمًا كاملًا ونهائيًّا.
في الفلسفة، تبقى المسألة مفتوحةً وغير محسومةٍ أو غير قابلةٍ لأن تحسم حسماً كاملاً ونهائيّاً
ويتفق ماهر وشريف على وجود علاقةٍ خاصةٍ و/ أو وثيقةٍ بين الفلسفةِ وسؤال الهُويّة. فيشدّد شريف على أنّ "سؤال الهوية هو سؤال الفلسفة بامتياز". ومن جانبه، يؤكد ماهر "أصالة" مشكلة الهُويّة وأهميتها وراهنيتها، فيكتب: "ليست مشكلة الهوية مشكلة لغوية، بل إشكالية واقعية نعانيها ونعاينها وجودياً وسياسياً وثقافياً، ونحتاج إلى تفكيكها وإيجاد الطرق العملية لإعادة ترتيبها وتركيبها والتأقلم مع متغيّراتها". ويبدو أنّ ذلك ينطبق، انطباقًا خاصًّا وكبيرًا، على العصر الراهن الذي يرى كثيرون أنّه يستحق اسم "عصر الهويات"، ويحاكي المبروكي تلك التسمية بوصفه ﺑ"عصر انفجار الهويات". ويذهب ماهر المذهب نفسه تقريبًا، حين يتحدّث عن كونِ "الحياة المعاصرة بتعقيدها التكنولوجي وسرعة تغيّراتها وكثافة ضغوطها المعولمة" تخلق "أزمة هوية عميقة ومركّبة بالمعنى الوجودي للأفراد في كلّ مكان تقريبًا".
في متابعةِ المقالات الأربعة التي كتبها الفيلسوفان المذكوران مناصفةً، بمعدل مقالٍ كلّ أسبوعٍ، يمكن للقرّاء أن يقعوا في حالةٍ تشبه حالة أبو فهمي/ أبو جندل في الاسكتش "الشهير" الذي يجمعه مع سامية الجزائري والمعنون ﺑ "أعطيه ولا ما أعطيه". ففي ذلك المقطع التمثيلي القصير، تستشير سامية "خانم" أبو جندل في خصوص قبول طلب أحد الشباب الزواج من ابنة أختها. فتشير إلى إيجابية لدى الشاب، فينصحها أبو جندل بأن تعطيه ابنة أختها، أي تزوّجه إياها، ثم تشير إلى سمة سلبيةٍ فيه أو في وضعه، فيغيّر أبو جندل رأيه، وينصحها بأن "لا تعطيه". وتتوالى حجج سامية الجزائري المتناقضة، وتتذبذب ردود فعل "أبو جندل" بين "عطيه" و"لا تعطيه". فحين تتحدّث عن "أخلاقه المنيحة"، يقول لها "عطيه"، لكنها سرعان ما تُشير إلى فقره، فيغيّر أبو فهمي رأيه ويقول لها "لا تعطيه"، فتشير إلى احتمال أن يرث الشاب من عمه، ويصبح غنيًّا، فيعود مرّة أخرى إلى رأي أن "تعطيه..، إلى أن يعلن "في النهاية" أنّها قد "نفخت قلبه"، ويستغيث بالآخرين، لنجدته، لمعرفة ما الذي ينبغي لها فعله في هذا السياق: "تعطيه، ولا ما تعطيه؟".
ثمة "عصابيةٌ فكريةٌ" في الإصرار على رفض أي ثباتٍ في الهوية، وفي اختزالها في الاختلاف
إذا أخذ القارئ كلّ مقالٍ، من سلسلةِ المقالات الرباعية المذكورة، على حدةٍ، بدا له، على الأرجح، أنّ الأطروحة أو الأطروحات الرئيسة التي تتضمنها مقنعةٌ ومعقولةٌ جدًّا، ليس بسببِ توّفر أو تَوافر حججٍ ومعطياتٍ تسمح بالتثبّت من "واقعية" أو "موضوعية" تلك الأطروحة أو الأطروحات، وإنّما بسبب بنائها الكلّي، ومبانيها المُحكمة، ومعانيها أو أفكارها المفيدة والمثيرة للتفكير والبحث والقراءة. لكن، عند قراءة الآراء المضادة لها، في مقالِ أو مَقالي الطرف الآخر، يتسرّب الشك إلى نفس القارئ، ويخرج بيقينٍ أقل من ذاك الذي دخل به ذلك التناول والنقاش الفلسفي لمسألة الهوية. وقد بدا أحيانًا، أنّه ينبغي للقارئ أن يختار بين طرفين يُقصي كلٌّ منهما الآخر أو يُساجله، مختارًا أو مضطرًا، بدلًا من "دفع النقاش إلى مستوى الجدل الحجاجي، وتصعد فيه الحجة إلى مستوى يليق باسمها، وليس التوّسل بمجموعة من الأمثلة والرؤى المختزلة"، وفقًا لتعبير شريف مبروكي. وعلى الرغم من ذلك، وبسببه أو بفضله، أو بغضّ النظر عنه، قدّم الفيلسوفان مقالاتٍ كاملة الدسم، حيث تضمنت الكثير من المعلومات والأفكار والاقتباسات والمفاهيم والإحالات المفيدة والعميقة والمهمة. وربّما كانت المقالات مفرطةً في الدسم أيضًا، إذا أخذنا في الحسبان أنّها "مجرّد مقالات"، وليست نصوصًا بحثيةً أو أكاديميةً. وبدا الإفراط المذكور، على سبيل المثال، في العدد الكبير (جدًّا) نسبيًّا من الإحالات على أسماء عشرات الفلاسفة والأعلام والمصطلحات والاقتباسات والنصوص... إلخ. فمستوى حضور الجدل الحجاجي ليس ناتجًا عن السمة السجالية فحسب، بل، أيضًا، عن المحاججة بالأسماء والاقتباسات، بطريقةٍ تشبه "القلقلة والعنعنة الدينية". وفي كلّ الأحوال، يمكن القول إنّ المقالات الأربعة مليئة بالصياغات الجميلة بمبانيها، والكثيفة والمُوحية بمضامينها ومعانيها، والمثيرة للتفكير أو إعادة التفكير بحدوسها ورؤاها، والمشجّعة على البحث والقراءة، والموّجهة لهما، بإحالاتها واقتباساتها واستحضارها للآخرين.
ربّما كانت مضامين المقالات محكومةً ببنية المحاورة ذاتها، حيث يبدأ أحد الطرفين بطرح فكرته، ثم يقوم الطرف الثاني بمناقشتها، وطرح فكرته أو رؤيته، في الوقت نفسه، ثم يفعل الأمر ذاته الطرف الأول، ليختتم الطرف الثاني "المحاورة". فقد بدأ ماهر مسعود المحاورة بمقالٍ تضمّن نقدًا بقدر ما تضمّن أطروحة بنائيةً، وربّما أكثر. وهذا يعني أنّه كان يحاور وينقد طرفًا ثالثًا أو أطرافًا أخرى، ولم يكن (بإمكانه أن) يُحاور أفكار محاوره المستقبلي، شريف مبروكي. وفي المقالة الأولى، كان موقف ماهر النقدي انتقاديًّا بالكامل، ولم يكن هناك أيّ ملمحٍ جدليٍّ في موقفه، بل تضمن المقال الأول مثنويةً صريحةً بين طرفٍ (مجهولٍ) يقول بثباتٍ أو بالأحرى جمودٍ جوهرانيٍّ للهُويّة، وطرفٍ آخر (ماهر نفسه) ينتقد الطرف الأول، ويعلن بطلان أطروحته وضرورة التخلّي عنها وتجاوزها. وثمّة "عصابيةٌ فكريةٌ" في الإصرارِ على رفضِ أيّ ثباتٍ في الهُويّة، وفي اختزالها في الاختلاف. وإصرار ماهر على جعل الهوية اختلافًا (محضًا)، يفضي أيضًا، على الأرجح، إلى نتيجةٍ غير مرغوبةٍ ولا مستساغةٍ بالنسبة إليه: جعل الاختلاف هويةً ثابتةً لا تتغيّر، ولا تتبدّل. وفي المقالة الثانية أعلن مبروكي اتفاقه (واختلافه) الجزئي مع النقد الذي وجهه ماهر للنظرة الجوهرانية للهُويّة، لكنه شدّد على أنّ ذلك لا ينفي وجود الهوية، ولا وجود ثبات جزئيٍّ ونسبيٍّ فيها، وأنّ مشكلات الهُويّة وانفجار الهُويّات في العالم المعاصر يمثل أزمةً وليس مأزقًا. لم يلتقط ماهر يدَ الاتفاق التي مدّها له مبروكي، بل استمر متمسّكًا، بثباتٍ، برؤيته المثنوية الصدامية، فعمل على استثمار كلّ ممكنات الاختلاف في نقدِ، أو بالأحرى انتقادِ، رؤية مبروكي، بطريقةٍ تعطي الانطباع بأنّ مبروكي يتبنى الرؤية الجوهرانية للهُويّة فعلًا. وفي المقال الرابع والأخير، أعلن مبروكي اضطراره إلى المساجلة بدلًا من الجدل بالمحاجة، وخصّص جزءًا مهمًّا من نصّه لتبيان الطريقة المناسبة للنقاش ومحاورة الآخر والاختلاف معه. وهكذا أصبحت المحاورة ذاتها هي الموضوع بعد أن كان مفترضًا أن تكون الأداة أو السياق الذي يتم فيه، ومن خلاله، مناقشة موضوعٍ ما، هو موضوع الهُويّة. لكن هذا هو حال الفلسفة دائمًا تقريبًا، فهي فكرٌ تفكريٌّ، أي فكرٌ يفكّر بنفسه، أو ينعكس على ذاته، حتى حين يفكّر بغيره وينشغل بموضوعٍ آخر.
أصبحت المحاورة ذاتها هي الموضوع بعد أن كان مفترضاً أن تكون الأداة أو السياق الذي يتم فيه ومن خلاله مناقشة موضوعٍ ما
النقطة التي انطلق منها ماهر بقيت متحكّمةً في مسيرة (أو مظاهرة) المحاورة، رغم أنّ (معظم) الأفكار التي قدّمها مبروكي تختلف، جزئيًّا على الأقل، عن الأفكار التي حرص ماهر على نقدها والاختلاف عنها في مقاليه على حدٍّ سواءٍ. لكن ذلك سمح للقارئ بفهم النموذج المنتقَد في أنقى صوره، كما لو أنّه نمط مثاليٌّ بالمعنى الفيبري. وقد انتقد شريف ميل ماهر مسعود، والمثقفين العرب عمومًا، إلى التصنيف التنميطي للآخر وفق قوالب جاهزة "يضع كلّ ما يقوله الآخر في خانات أو فئات جاهزة وبحسب مقولات مضادة جاهزة أيضاً، لا لشيء إلا للإطاحة به وبآرائه، وذلك بحثاً عن الصدى والاستقطاب، وبدافع وعي ذاتي موهوم بامتلاك الحقيقة وصوابية الخطاب الذي يصدر عنه". وأخذ شريف على ماهر أنّ مقاله تضمَّن عددًا (كبيرًا) من المغالطات، لم ينجح في تجنيب نصّه الوقوع فيها. ومن بين تلك المغالطات، مغالطة "رجل القش" التي يبدو أنّه رأى أنّ ماهر قد "ارتكبها"، أو "وقع فيها"، أكثر من مرّة. ففي تقديمه الانتقادي لآراء ماهر، زعم شريف أنّ ماهر انتهى "إلى أنّ الهوية هي "ماكينة لتوليد التعاسة"، مع العلم أنّ ماهر، تحدّث عن أنّ مأزق الهُويّة، وليس الهُويّة، "يبدو للوهلة الأولى"، وليس في نهاية التأمّل أو في الحكم الأخير، "وكأنه ماكينة لتوليد التعاسة".
لا يمكن انتقاد المقالات الأربعة من منظورِ عدم تناولها لهذه الفكرة أو تلك. فكما أشرت آنفًا، تتضمّن المقالات الأربعة كثافةً كبيرةً في الأفكار القيّمة، تتجاوز ما يُفترض أو يُنتظر، عادةً، من مثل هذه المقالات. لكنْ ثمّة فكرةٌ رئيسةٌ بقيت غائبةً أو مغيّبةً، أو ضبابيةً، أو غير واضحةٍ، ولم يتم حسمها بوضوح في المقالات الأربعة، على حدٍّ سواء. لمناقشة هذه المسألة يمكن البدء بتناول السؤال التالي: هل تتناول المقالات البعد المعرفي لمسألة الهُويّة، أم البعد الأنطولوجي/ الوجودي، أم كلا البعدين، معًا؟ فعلى سبيل المثال، هل يعني الحديث عن أزمة الهُويّة أو انفجار الهُويّات أنّ تلك الأزمة تطاول وجود الهُويّة ذاته، أم تطاول الوعي بهذا الوجود، أم أنّه لا فرق بين الأمرين؟ تنوس المقالات الأربعة بين هذين البعدين، من دون توضيح ذلك النواس، ومن دون حسم البعد الذي يتم تناول المسألة من خلاله. فتارةً يجري الحديث عن الهُويّة، بوصفها مسألة وجودية/ أنطولوجية ذات استقلالٍ نسبيٍّ عن الوعي بها، وتارةً أخرى، يتم الخلط أو المزج أو التوحيد بين الهُويّة والإحساس بها أو الوعي بها أو الشعور بها، حيث تكون الهُويّة شعورًا، على سبيل المثال. وربّما كان الخلط أو المزج بين البعدين المعرفي أو الشعوري والأنطولوجي/ الوجودي في مقالتي مبروكي أكبر وأوضح، خصوصًا أنّ ماهر يشدّد، في ختام مقاله الثاني، على فاعلية الذات أو الفلسفة في خلق الحقيقة، وعلى أنّ دورها لا يكمن في الكشف عن وجودها الناجز مسبقًا. ويمكن أن تتقاطع فكرة ريكور التي يتبناها مبروكي عن سردية الهُويّة، أو الهُويّة السردية، مع فكرة وجود دورٍ للذات في تحديد هُويّتها. فالهُويّة ليست مجرّد وجودٍ ناجزٍ مستقلٍّ عن الذات الإنسانية الفاعلة، وليست مجرّد شعورٍ أو إحساسٍ أو وعيٍ بالوجود المذكور، وإنّما هي أيضًا وخصوصًا، ما تريد ذات الهُويّة أن تكونه. فالهُويّة لا تُختزل في ما هو كائنٌ، سواء وجوديًّا أو معرفيًّا أو شعوريًّا، وإنّما تتضمن دائمًا بعدًا معياريًّا أو إراديًّا يتمثل في ما تريد ذات الهُويّة أن تكونه. فنحن لسنا مجرّد نسبٍ لاإراديٍّ وإنما انتسابٌ إراديٌّ أيضًا. وإذا استخدمنا لغة إدوارد سعيد، في "أماكن العقل"، نقول نحن لسنا بنوة filiation، (فقط)، وإنما نحن تبنٍّ affiliation، (أيضًا). وبهذا المعنى لا تكون الهُويّة مجرّد قدرٍ، بل تكون مصيرًا (أيضًا). فليست هُويّة الفتى مرتبطةٍ بما كانه أبوه (فقط)، وإنّما هُويّته بما يريد أن يكونه (أيضًا). في هذا الجدل بين النسب والانتساب، بين الإرادي واللاإرادي، بين البنوة والتبني، بين الفردي والجماعي أو الجماعاتي، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين القدر والمصير، بين الثبات والاختلاف، بين الاستمرارية والتغيّر، بين الذاتية والموضوعية... إلخ، تكمن وتظهر الهُويّة التي توجد وتنوجد، ونجدها وتجدنا، ونوجدها وتوجدنا، ونتواجد معها وبها.