قدرُ الفلسفة ومصيرها في العالم العربي
يبدو أنّ قدر الفلسفة في العالم العربي أن تكون أسيرة تيارين مُتعاكسين: أحدهما لا يرى فيها سوى ترفٍ وفكر الأبراج العاجية الفائض عن الحاجة في أحسن الأحوال، وكفرٍ وزندقةٍ وخروجٍ عن الملّة وعليها في أسوئها؛ وآخر يرى فيها أمّ العلوم وأرقى المعارف وأهمها. وقد ظهر هذا الاستقطاب، في الفترةِ الأخيرة، بوضوحٍ، بعد التصريحات المُثيرة للجدل التي أطلقها الإعلامي المصري، تامر أمين، والتي قلّل فيها من قيمةِ أو جدوى مواد شُعبة الأدبي في المرحلة الثانوية، والمتمثّلة في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والمنطق وعلم النفس؛ ورأى أنّ هذه المواد ليس لها أهميّة، وغير مفيدة لمستقبلِ الطلبة. وتزامنت هذه التصريحات مع ورودِ خبرٍ أو تسريباتٍ في البوابةِ الإلكترونية لجريدة الأهرام الحكوميّة عن وجود قرارٍ لدى وزارة التربية والتعليم المصريّة يتضمن إلغاء دراسة الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا ومواد "أدبية" أخرى من مناهج نظام الثانوية العامة المصري.
تعالت صيحات أو أصوات واستغاثات الفلاسفة و/ أو المشتغلين في الفلسفة والأطراف المحبّة للفلسفة أو "المقدِّسة" لها، وتضمّنت تلك الأصوات إبرازًا مُحقًّا، حينًا، ومفرطًا وغير محقٍّ، أحيانًا، لقيمةِ الفلسفة وأهميتها، وما عُدَّ دورها الفريد الكبير والعظيم في (كلّ) مناحي الحياة الإنسانيّة. فالفيلسوف اليمني، قاسم المحبشي، تحدّث عنها بوصفها "أم العلوم وملكة الحكمة وأميرة المعارف"، وشدّد على أنّ الفلسفة ليست "اختيّارًا من بين اختيّاراتٍ أخرى، بل هي ضرورةٌ قصوى وملحةٌ، إذ إنّها الوحيدة من بين فعاليات العقل البشري التي تعلّم الإنسان جهله وحدود عقله وتمنحه فضيلة الاستنارة والتسامح مع غيره من الناس". ومن الواضح أنّ المحبشي يفرِط في تقدير قيمة الفلسفة ودورها و/ أو يُفرِّط في تقدير قيمة المعارف والحقول غير الفلسفيّة. ألا يمكن للدين، مثلًا، أن يسهم في منح الإنسان "فضيلة التسامح مع غيره من الناس"، "من دون فلسفة"؟ ولماذا إعطاء الفلسفة هذا المكان الفريد، وتلك المكانة الاحتكاريّة، في هذا الخصوص؟
ونجد إفراطًا وتفريطًا مُشابهين في البيان الصادر عن وحدة الدراسات الفلسفيّة والتأويلية (في المعهد العالمي للتجديد العربي) لأجل الفلسفة في مصر. ففي ذلك البيان زعمٌ بأنّ "كل الحروب والسياسات التي تتحكّم بالعالم هي نتاج الفلسفات الكبرى في الوجود". ليس واضحًا ما تعنيه الفلسفة في هذا البيان أو في غيره من النصوص المُدافعة عن الفلسفة. ويبدو أنّها تعني كلّ رؤيّةٍ كليّة أو عامة للوجود. لكن ألا يعني هذا أنّه إذا كان لدى كلّ إنسان رؤية كليّة أو عامة للوجود، فإنّ كلّ إنسانٍ فيلسوف أو لديه رؤية فلسفيّة؟
تبدو الفلسفة، كما تظهر في كتاباتِ بعض المتحمّسين للدفاع عنها، كمصابٍ بجرحٍ في نرجسيّته
ينبغي الانتباه إلى أنّ "الدفاع الأخير" عن الفلسفة ظهر في سياقِ رفض المحاولات الفعلية أو المزعومة لإلغاء تدريسها في المرحلة الثانويّة. لكن هل كان لتدريس الفلسفة التأثير الذي يظنّ البيان وجوده. فهل أسهمت الفلسفة وتدريسها، في مصر أو خارجها، في "بناء للشعور بالانتماء الوطني والانتماء الحر للإنسانية، وتقليلٍ للفساد والتطرُّف والمثالب والسقطات الكبرى في سيرورة الشعوب والدول، وتأسيسٍ للأوطان المتقدّمة التي تواكب العلوم الراهنة". هل ما يتم تدريسه هو الفلسفة بوصفها نقاشًا حرًّا ومفتوحًا لقضايا وجودية وإنسانيةٍّ، من منظورٍ كليٍّ وشاملٍ، أم الفلسفة بوصفها تاريخًا وأفكارًا تحوّلت إلى معلوماتٍ يجري تدريسها أو تلقينها وحفظها واستفراغها يوم الامتحان حيث تُهان الفلسفة أو تُهان؟
ينبغي للدفاع عن الفلسفة، في وجه من يهاجمها أو يتهجّم عليها أو ينتقص منها ويقلّل من قدرها، أن ينتبه إلى نفسه وألا ينزلق إلى مواجهةٍ جبهيةٍ تُفضي إلى اتسامه بما يتسم به منتقدو الفلسفة من إفراطٍ أو تفريطٍ في مضامين الأحكام التي يجري استسهال إصدارها من الطرفين. يمكن للدفاع عن الفلسفة أن يصبح، مثل مهاجمتها أو التهجّم عليها، مجرّد رؤيةٍ مثنويةٍ أو مانويةٍ يجري تبني أحد قطبيها والإعلاء من شأنه مع رفض القطب الآخر، والحطّ من شأنه. والرؤية المثنوية هي أهم سمات الفكر الأيديولوجي بالمعنى السلبي للكلمة. ومثل هذا الفكر الأيديولوجي ليس فكرًا فلسفيًّا، بل هو فكرٌ مضادٌّ للتفكير الفلسفي المُتسائل والمُسائِل والمشكّك والمتشكّك والرافض لمثل تلك الحقائق المطلقة واتسام طرفٍ واحدٍ بمثل تلك القيم المطلقة.
تاريخيًّا، اضطرَ فلاسفةٌ كثر إلى الدفاع عن الفلسفة. هذا ما فعله، على سبيل المثال، أفلاطون، في "الدفاع عن سقراط"، وديكارت، في "تأمّلات في الفلسفة الأولى"، وإيمانويل كانط، في مقدّمة "نقد العقل المحض"، وجون ستيوارت ميل: في كتابه "عن الحرية"، وكارل بوبر، في كتابه "منطق البحث العلمي" ...إلخ. لكن هذا الدفاع لم يكن فلسفيًّا دائمًا. ولم يكن بإمكانه أن يكون فلسفيًّا إلا حين كان متوازنًا من حيث عدم الإفراط في تقييم الفلسفة وعدم التفريط في إظهار قيم المعارف أو المجالات أو الميادين المعرفيّة الأخرى.
الفلسفة، بوصفها "أمًّا للعلوم" تخون أمومتها"، حين ترفض الاعتراف بنضجِ بناتها وأبنائها وبحقّهم المبدئي في الاستقلال (شبه) الكامل عنها
تبدو الفلسفة، كما تظهر في كتاباتِ بعض المتحمّسين للدفاع عنها، كمصابٍ بجرحٍ في نرجسيّته. فهذا الجرح يؤلمها ويجعلها عاجزةً عن الاعتراف بالواقع الموضوعي لنمو المعارف الأخرى وتطوّرها واحتلالها جزءًا من المكان الذي كانت الفلسفة تشغله، ولتمتّعها بجزءٍ من المكانة التي كانت تتمتّع بها. ويفضي هذا أحيانًا إلى حالةٍ من الإنكار بالمعنى الفرويدي للكلمة. ويتحدّث الفيلسوف الجزائري محمد شوقي الزين عن "هامشية الفلسفة أو تهميشها في عصرنا الحالي". قد تعني هامشية الفلسفة، في هذا السياق أنّها لم تعد تحتل المكانة المركزيّة ذاتها التي كانت تحتلها في العصر اليوناني على سبيل المثال. وينبغي للفلسفة والفلاسفة قبول وتقبّل مثل هذه الهامشيّة. أمّا إذا كانت هامشيّة الفلسفة نتاج محاولات لنفي إمكانيّة اضطلاعها بدورها المعرفي، التحليلي والتركيبي، والنقدي، التقييمي والتفكيكي، ومن منظورٍ شموليٍّ أو كليٍّ وصفيٍّ ومعياري، فحينها ينبغي بالتأكيد التصدّي لعملياتِ التهميش ومقاومة تلك الهامشية الناتجة عنها. وينبغي الانتباه إلى أنّ الفلسفة، بوصفها "أمًّا للعلوم" تخون أمومتها"، حين ترفض الاعتراف بنضجِ بناتها وأبنائها وبحقّهم المبدئي في الاستقلال (شبه) الكامل عنها، مع إمكانيّة تفوّقهم عليها في كلّ أو معظم الميادين. فمقابل إنكار بعض العلمويين قيمة الفلسفة، هناك إنكار من بعض الفلسفيين لقيمة العلوم، وعدم إقرارٍ بما حقّقته تلك العلوم من مكانةٍ معرفيّةٍ رفيعةٍ، فاقت أمّها الفلسفة، في كثيرٍ من السياقات والأحيان.
على المدافعين عن الفلسفة أن يتبيّنوا ويبيّنوا للآخرين: ما الفلسفة التي ينبغي الدفاع عنها، ولماذا؟ وينبغي عدم استسهال الحديث عن فائدة التفلسف والفلسفة. فمن ناحيةٍ أولى، لا تشتهر الفلسفة بقدرتها على تحقيق المنافع المباشرة أو المؤكّدة. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ينبغي الحذر من ربط التقدّم المادي أو الحضاري عمومًا بالحضور القوي والمؤثّر والمتطّور للعلوم الاجتماعيّة والإنسانية. ولعل المثال الياباني هو أحد أهم الأمثلة التي تبيّن أنّ نهضة أمةٍ ما لا تقتضي، بالضرورة، بروزها أو تفوقها في الميادين المذكورة عمومًا، وميدان الفلسفة خصوصًا، أو عنايتها الكبيرة بهذه الميادين.
وينبغي للنصوص المُدافعة عن الفلسفة أن تُولي عنايةً خاصةً بالسؤال التالي: هل المطلوب الدفاع عن الفلسفة بحدِّ ذاتها، أمّا الدفاع عن فلسفةٍ بعينها. فوفقًا لنصوص (بعض) المدافعين عنها تنوس الفلسفة بين كونها جيّدةً دائمًا، وبين كونها جيّدةً أحيانًا وسيئةً أحيانًا أخرى. وقد لا يكون من مهمة التفلسف أو بمقدوره الفصل المعياري بين الفلسفات، لعزل الحسن منها عن القبيح.
من يدّعي امتلاك الفلسفة أو الفلاسفة للحكمة إنّما يخون الفلسفة ذاتها، من منظورٍ ما
القول بأحقية التفلسف وضرورته يعني عدم الانتصار لرؤيةٍ معرفيّةٍ أو معياريّةٍ بعينها، بل يعني إفساح المجال للحضور، ليس لما يُنظر إليه على أنه فلسفاتٌ جيّدةٌ فحسب، بل لما يُعدُّ فلسفاتٍ سيئةً أيضًا. وحينها ينبغي الدفاع عن الحقّ في مساءلة البديهيات ومناقشة المسلّمات، وفي تقديم منظوراتٍ أخرى تبدو مختلفةً عما هو سائدٌ في الرأي العام والتوجّهات المعرفيّة المهيمنة، بغضّ النظر عن التقييم الذي تتلقاه تلك المنظورات من الآخرين.
الفلسفة لا تملك الحكمة، وإنّما يمكن أن تبحث عنها بحبٍّ وشغفٍ ودأبٍ. ومن يدّعي امتلاك الفلسفة أو الفلاسفة للحكمة إنّما يخون الفلسفة ذاتها، من منظورٍ ما. لكن يمكن لتلك الخيانة، وخيانة الفلسفة لأمومتها، أن تكونا جزءًا من الفلسفة. فالفلسفة ليست مضمونًا معرفيًّا و/ أو معياريًّا متناسق العناصر ومتناغم الأجزاء. ومن دون القبول بالاختلافات المُحايثة لماهيّة الفلسفة، يصعب تقبّل أو حتى قبول الاختلافات القائمة بين الفلسفة وغيرها من الميادين المعرفية الأخرى.
ولا تنتج الفلسفة معرفةً مُجسّدةً للقيم الفلسفيّة والإنسانيّة الكبرى (الحق والخير والجمال) بل تقدّم معرفةً تقترب أو تبتعد، لدرجاتٍ مُتفاوتةٍ عن تلك القيم. ومن ثمّ، يمكن لفلسفةٍ ما أن تجسّد نقيض ما يعدّه آخرون، ومنهم فلاسفةٌ، الحق أو الحقيقة والخير والجمال. ونصوص الفلاسفة وتاريخ الفلسفة، عمومًا، يعجُّ بالأمثلة على ذلك.
قد لا يكون الأمل كبيرًا في أن يتغيّر قدر الفلسفة الحالي، في مصر أو في العالم العربي عمومًا. فالاستقطاب المثنوي الأيديولوجي، في هذا الخصوص، مغرٍ، ويرتمي كثيرون في أحضانه، بوعيٍّ أو من دونه، ومن دون أيّ مقاومةٍ تُذكر، في كثيرٍ من الأحيان. لكن الأمل موجودٌ فيمن يرون أنّ مستقبل الفلسفة مسألة مصيرٍ وليس قدرًا أحمق الخطى، وأن بإمكانهم الإسهام (الإيجابي) في تحقيق هذا المستقبل بطريقةٍ تتجاوز المثنويات المذكورة، بالمعنى الهيغلي للتجاوز. وعلى العكس من الجدل الهيغلي، ليس ممكنًا ولا مرغوبًا أن يفضي ذلك التجاوز إلى تركيبٍ كليٍّ مطلقٍ. فالاعتراف بالنسبي هو، أو ينبغي أن يكون، المطلق الوحيد في هذا الخصوص.