"قمنا بحمايتك، قمنا بمساعدتك، لماذا تقتلنا؟"
هذا هو السؤال الذي تضمّنته لافتة رفعتها إيميليا (وهي طفلةٌ ألمانيةٌ يبلغ عمرها تسع سنواتٍ) في موقعِ الجريمة الإرهابيّة التي ارتكبها داعشيٌّ سوريٌّ في زولينغن الألمانية، وأسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثمانيةٍ آخرين. قد يحار الإنسان في كيفيّة الإجابة عن مثل هذا السؤال، الذي يبدو خطابيًّا واستفهاميًّا، في الوقت نفسه. فهو خطابيٌّ، لأنّه لا ينتظر إجابةً، على الأرجح. فالإجابة معروفةٌ مسبقًا: لا شيء يسوِّغ، أخلاقيًّا على الأقل، اقتراف شخصٍ ما هذه الجريمة أو هذه الفعلة الشنيعة. بل إنّ المقدّمات التي ينبني عليها السؤال تُشير إلى وجودِ أسبابٍ أكثر من كافيةٍ لامتناع مُقترف الجريمة، ليس عن ارتكابها فحسب، بل حتى عن التفكير في إمكانيّة اقترافها أصلًا. وكان ينبغي لهذه الأسباب أن تدفعه إلى الشعورِ بالشكر والامتنان والتعبير عن ذلك بالأقوال والأفعال، وليس إلى الردّ على الحماية والمساعدة بطعن وقتل من وفّروا له هذه الحماية وتلك المساعدة.
تبدو هذه الجريمة غير قابلةٍ للفهم، بقدر ما يتضمّن الفهم تبريرًا وتسويغًا لها. فالفهم يقتضي إقامة روابط معقولةٍ بين الأفكار أو الأحداث أو القيم أو بين كلّ ذلك وغيره في الوقت نفسه. ولا يبدو أنّ ثمة رابطًا معقولًا بين الأحداث المتعلّقة بهذه الجريمة. ومع ذلك، ينبغي لنا أن نحاول الفهم والتفسير والشرح، ليس بغرض التسويغ والتبرير، ولا لمجرّد التنديد وتحديد المسؤولية، بل بهدف محاولة استخلاص بعض الدروس والعبر التي قد تكون ضروريةً في التعامل مع مثل هذه الجرائم، قبل حدوثها، وأثناء ذلك الحدوث، وبعده.
قد يكون الحديث عن كون الجريمة إرهابيّةً غير مساعدٍ على فهم طبيعة هذه الجريمة إلّا من الناحية القانونيّة والرسميّة. فالإرهاب أصبح تهمةً رائجةً تطلقها أطرافٌ كثيرةٌ، هي نفسها متهمةٌ بممارسة أو دعم إرهابٍ آخر. فأكثر وأكبر وأسوأ القوى الإرهابيّة في العالم تجيزُ لنفسها ممارسة الإرهاب ودعمه حين يكون متوافقًا مع مصالحها، وتدين الإرهاب الذي يتعارض مع تلك المصالح، أو تسم بالإرهاب حتى ما هو مسوغٌ أخلاقيًّا وقانونيًّا أيضًا. ولعل ما يحصل، في فلسطين، منذ السابع من أكتوبر، ومواقف الكثير من الدول المؤثّرة في هذا الخصوص، يقدّم أنموذجًا لذلك التكاذب في خصوص الإرهاب وممارسيه وضحاياه.
لا شيء يسوِّغ، أخلاقيًّا على الأقل، اقتراف شخصٍ ما هذه الجريمة أو هذه الفعلة الشنيعة
قد يكون الحديث عن داعشيّة الجريمة مساعدًا أو أقلّ عرقلةً للفهم والتفاهم والتفسير غير المبرِّر. فوفقًا للمُعطيات المتاحة، أقدم تنظيم داعش على تبني العملية بوصفه "جزءًا من استراتيجيته للتأثير على المجتمع الغربي وزيادة التوترات الاجتماعية". والإسلاموية، الداعشية وغير الداعشية، تقسّم العالم إلى فسطاطين؛ نحن، المسلمين أو الإسلاميين، والآخرين الكفرة. وليس مهمًّا من هذا المنظور الداعشي الاستغرابي (بمعنى الاستشراق المعكوس) من هم هؤلاء الآخرون. فهُويّتهم تتحدّد من خلال كونهم غير مسلمين أو غير إسلاميين أو غير داعشيين. ولا معنى، من هذا المنظور، للحديث عن كون، هؤلاء الآخرين، مدنيين أو أطفالاً أو طيبين أو أبرياء أو مسالمين أو مؤيّدين لاستضافة اللاجئين ومساعدتهم وحمايتهم... إلخ. ومن وجهة نظرٍ أخلاقيّةٍ، من الواضح مدى سوء أو لا أخلاقيّة هذه النظرة الداعشيّة، ومدى ضرورة مواجهتها في المهد، والتخلّص منها وإيصالها إلى اللحد. فهي تقدّم النموذج الأنقى لدينٍ بلا أخلاقٍ، رغم أنّها تزعم مع كثيرين أنّ "لا أخلاق بلا دين".
يمكن للحديث عن داعشيّة الجريمة أن يثير الكثير من عدم أو سوء الفهم، بقدر ما يسمح بالفهم، وربّما أكثر. فثمّة أسئلةٌ يبدو من الصعب الحصول على إجاباتٍ مُرضيةٍ لها، خصوصًا إذا أخذنا في الحسبان أنّ الجريمة سُوِّغت بأنّها "انتقام لفلسطين". فكيف يمكن فهم الانتقام لمقتل أبرياء بقتل أبرياء آخرين؟ وما معنى الانتقام من الإجرام بممارسته، والانتقام من المجرمين بقتل أبرياء؟ هذه الجريمة لا يمكن تسويغها حتى بمنطق "الغاية تبرّر الوسيلة". فلا الغاية مفهومة أو معقولة، ولا الوسيلة مناسبة أو مُفضية إلى تحقيق تلك الغاية المزعومة. ويمكن لسوء الفهم أن يتضاعف حين يتم التعامل مع داعش على أنّها المُمثّلة للإسلام والمسلمين (في ألمانيا)، ويتم الاشتباه بكلِّ المسلمين، والتعامل مهم، (أحيانًا)، على هذا الأساس. ووفقًا للمنطق ذاته، يُؤخذ في الحسبان أنّ الجريمة ارتكبها لاجئ سوري. وقد يعني ذلك بالنسبة إلى اللاجئات واللاجئين، والسوريّات والسوريين، ما تعنيه داعشيّة الجريمة. ويسهم هذا الأمر في نزع إنسانيّة اللاجئين/ المسلمين/ السوريين بمعنيين على الأقل.
أكثر وأكبر وأسوأ القوى الإرهابيّة في العالم تجيزُ لنفسها ممارسة الإرهاب ودعمه حين يكون متوافقًا مع مصالحها
الناحية الأولى من نزع الإنسانيّة معروفة، وتتمثّل في اختزال الآخرين، من آل الضحايا، لإنسانيّة اللاجئين أو السوريين أو المسلمين في لجوئهم أو سوريّتهم أو إسلامهم، ومماهاة المجرم معهم، وعدّهم طرفًا واحدًا. وخوفًا من مثل هذه المماهاة، وللإعلان عن رفضها، نظَّم عددٌ من السوريين في مواقع كثيرةٍ في ألمانيا (ومنها موقع الجريمة المروِّعة) وقفاتٍ تضامنيّةً مع الضحايا، وللتعبير عن استنكارهم للجريمة وإدانتهم الكاملة لها. في المقابل، أبدى سوريون آخرون تشكّكًا أو تشكيكًا في معقوليّة مثل هذه الوقفات، لأنّهم يرون أنّها تؤكّد ما تريد أن تنفيه، وتفترض أن ثمّة حاجة لتبرئةِ الذات التي يتهمها آخرون أو يدينونها مسبقًا. وترتبط هذه المسألة بالناحية الثانية من نزع الإنسانيّة المذكور.
تتمثّل الناحية الثانية في مسألة سبق لي الكتابة عنها مفصَّلًا، في مقالٍ بعنوان "اللاجئون (المسلمون) و"الإرهاب": لمَ يصعب على اللاجئ أن يكون إنسانًا ("عاديًّا")؟"، وسأكثفها في ما يلي.
عند تعرّض أيّ بلدٍ مُستضيفٍ للاجئين لحدثٍ "إرهابيٍّ" ما، يمسك معظم اللاجئين بقلوبهم، ويسود الحزن والغضب والخوف معظم أوساطهم. لكن هذه المشاعر ليست غالبًا مماثلةً لمشاعر الإنسان أو المواطن "العادي"، إذ لا يكون التعاطف مع الضحايا، والتنديد بالإرهابيين، هو ردّ فعلهم النفسي والأخلاقي وحتى الفكري الأول، من حيث الزمان أو الأهميّة. فالهمّ الأوَّل والأهم، لديهم حينها، هو ألّا يكون "الإرهابي" منهم (كما يتوقعون أو يتخوفون غالبًا)، بمعنى أن يكون "الإرهابي" لاجئًا و/أو مسلمًا، مثلًا وخصوصًا.
إنّ هشاشة وضع اللاجئين وتبنّي الصورة النمطيّة السلبيّة عنهم، يجعلانهم غالبًا في موقعِ ردِّ الفعل مُسبق الصنع، لا المنفعل بالمستجدات والفاعل وفقًا لها
إنّ استثنائية وضع اللاجئين تجعلهم في وضعٍ دفاعيٍّ وأنانيٍّ، عند حصول أيّ "هجومٍ إرهابيٍّ" في البلدان التي يقيمون فيها أو في البلدان المجاورة لها. فهم يتخذون الوضع الدفاعي، من خلال التشديد على أنّ الإرهابيين لا يمثلونهم ولا يمثلون معتقداتهم، ولا يعبّرون عن توجّهاتهم وأفكارهم وانتماءاتهم. ويتسم موقفهم بالأنانيّة، بقدر ما يكون متمحورًا حول مصالحهم والنتائج السلبيّة التي قد تترتّب عليهم، نتيجةً لهذا الهجوم، بدلًا من أن يتأسّس، بالدرجة الأولى، على الحزن على الضحايا والغضب من "الإرهابيين"، كما يُفترض أن يحصل لدى الإنسان "العادي". ويمكن لهذه الدفاعيّة وتلك الأنانيّة أن تثيرا الكثير من مشاعر الاستغراب والاستهجان والغضب ... إلخ، لكن ينبغي لهذه المشاعر أن تترافق مع محاولةٍ لفهم موقف هؤلاء اللاجئين ومعرفة أسبابه التي يمكن أن تكون مسوِّغةً أو حتى مبرِّرةً له، لدرجةٍ أو لأخرى.
إنّ هشاشة وضع اللاجئين وتبنّي الصورة النمطيّة السلبيّة عنهم، يجعلانهم غالبًا في موقعِ ردِّ الفعل مُسبق الصنع، لا المنفعل بالمستجدات والفاعل وفقًا لها. لكن ذلك ليس قدرًا لا فكاك منه. وبعيدًا عن ردود الفعل الدفاعيّة التي تتحوّل أحيانًا إلى هجوميّةٍ عدوانيّةٍ ("أنتم المجرمون، لا نحن!"، "أنتم منبع الإرهاب، لا نحن!"، وردود الفعل الأنانية ("المهم أو الأهم ألا يكون المجرم محسوبًا علينا!")، أرى ضرورة السعي إلى تبنّي ردود فعلٍ أكثر أخلاقيةً وإنسانيةً. صحيحٌ أنّ الإنسان لا يتحكّم بمشاعره، لكن من الصحيح أيضًا أنّ العواطف والمشاعر يمكن أن تكون ترسّبًا لأفكارٍ، ونتيجةً للاقتناع بها. والعامل الذاتي لا يكفي بالتأكيد. فثمّة ضرورةٌ لحصول تغيّرٍ في الشروط الموضوعيّة المتعلّقة بوضع اللاجئين الهش. لكن عدم كفاية العامل الذاتي لا ينفي أهميّته وضرورته. وسعينا إلى أن نكون، في ردود فعلنا، بل في أفعالنا، ناسًا "عاديين و"طبيعيين"، هو شرطٌ ضروريٌ لاستعادة إنسانيّتنا المسلوبة، نتيجةً لمسبّبات اللجوء وظروفه ونتائجه. وفي هذا السعي، وفي هذا الشرط، يكمن، من وجهة نظري، "أرقى" معنىً ممكنٍ، لمصطلح "الاندماج".