مفارقات الذات العربية السياسية "المجروحة"
تبدو الذات، بل الذوات، السائدة والمهيمنة في المجال السياسي العربي/ الفلسطيني، مجروحة بأكثر من معنى. فهي مجروحةٌ، لأنّها ترى أنّها ضحية لقوى (أجنبيةٍ) تعتدي عليها وتدعم أعداءها، وتسلب مقدراتها وتفرض سلطانها عليها، فرضًا مباشرًا أو غير مباشرٍ، وتتحكّم، سلبًا، في حاضرها ومستقبلها. وهي مجروحةٌ، لأنّها (ترى أنّها) ضحيةٌ، وتعاني ممّا يحصل لها من قبل الآخرين، الأغراب وذوي القربى. ويبدو ذلك واضحًا في الحالة الفلسطينية، بعد هجوم السابع من أكتوبر، خصوصًا. فالجرائم التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني بعد ذلك الهجوم كثيرةٌ وكبيرةٌ وفظيعةٌ، كمًّا وكيفًا، لدرجة بات معقولًا ومسوّغًا وصفها بجرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة، لا من وجهة نظرٍ فلسطينيةٍ أو عربيةٍ أو إسلاميةٍ فحسب، بل من وجهة، بل وجهات نظرٍ قانونيةٍ دوليةٍ مؤسساتيةٍ محايدةٍ وموضوعيةٍ، أيضًا.
ويتقاطع الحديث عن كون الذات العربية (المجروحة) ضحيةً مع حديثٍ عن انتصار هذه الذات على أعدائها، ويعبّر ذلك عن إحدى المفارقات المرتبطة بالذات العربية السياسية المعاصرة.
فالمفارقة الأولى تتمثّل بأنّه على الرغم من الحجم الهائل للخسائر، البشرية والمادية، في البشر والحجر، التي يتعرّض لها الفلسطينيون عمومًا، والغزاويون خصوصًا، منذ الهجوم المذكور، ما زال بعض أصحاب الذات المجروحة يتحدثون عن انتصار هؤلاء الفلسطينيين/ الغزاويين، وهزيمة من يجتاحون أراضيهم ويعيثون فيها وفيهم قتلًا وتدميرًا. ولفهم هذه المفارقة ينبغي التدقيق في معاني الانتصار والهزيمة، ونسبتها. فالانتصار، في مثل هذه السياقات، قد يكون مليئًا بالهزائم، والهزيمة قد تكون مفعمة بالانتصارات.
تحتاج الذوات العربية المجروحة إلى التحرّر من (معظم) القوى التي تزعم، بحقٍّ أو من دونه، أنّها تسعى إلى تحريرها
وينتج من المفارقة الأولى، ويرتبط بها، مفارقة ثانية لا تقلّ إيلامًا، وتتعلّق بمسألة (انعدام) المسؤولية. فالحديث عن الانتصار يتضمّن الإشارة إلى أنّ الذات الفلسطينية العربية/ الإسلامية مسؤولة عن تحقيق ذلك الإنجاز. في المقابل، تبدو تلك الذات ومسؤوليتها منعدمة ومعدومة، حين الحديث عن الهزائم والجرائم والمجازر التي يتعرّض لها الفلسطينيون/ الغزاويون. فحينها، تبدو الذات الفلسطينية العربية/ الإسلامية مجرّد ضحية، لا حول ولا دور لها ولا فاعلية ولا مسؤولية. وهكذا تحتكر الذات الحضور في سياق الحديث عن الانتصار، ويتم تغييبها، من خلال إعدام مسؤوليتها عن طريق اختزالها في مجرّد موضوعٍ، في سياق الحديث عن الهزائم والجرائم التي تتعرّض لها تلك الذات.
وتتصل المفارقة الثالثة بماهية الذات التي تتحدّث عنها المفارقة الثانية. فعند الحديث عن انتصار الذات الفلسطينية العربية/ الإسلامية، يبدو أنّ ذلك الحديث يخصّ بعض أفراد النخبة من أصحاب التنظيمات والإيديولوجيات، ولا يشمل الأغلبية الساحقة والمسحوقة التي تتعرّض لعملياتٍ ممنهجةٍ من التقتيل والتدمير والتهجير والتعذيب والتجويع، إلخ. في المقابل، ليس واضحًا الكيان السياسي الذي تحيل عليه الذات المذكورة. فمن هي اﻟ "نحن" السياسية التي يجري الحديث عنها في هذا الإطار. فهي تحيل على الفلسطينيين، بوصفهم فلسطينيين، و/ أو بوصفهم عربًا، و/ أو بوصفهم مسلمين، و/ أو بوصفهم إنسانيين. ففي خصوص البعد العربي أو العروبي، التناقض قائم بين الأمّة (المتخيلة) والدولة (القائمة). ويبدو أنّه ليس واضحًا، حتى لدى (بعض) المتبنين لهذا التوجّه السياسي ما المناسب الذي يمكن أن تتخذه كلّ "دولة عربية" على حدةٍ، في هذا الخصوص. ويبدو هذا البعد وهمًا وواهمًا، بقدر ما يقتصر على الإحالة على كائناتٍ خلبيةٍ لا وجود لها بالمعنى السياسي المؤسساتي والدولتي. وينطبق المنطق ذاته على البعد الإسلامي.
التغيير صديق مبدئيٌّ للذوات المجروحة والمقموعة، خصوصًا عندما تكون أوضاعها قد بلغت أسوأ درجاتها
وثمّة مفارقة رابعةٌ محايثةٌ للمفارقة الثالثة وتتمثل بالخلطة الهجينة التي تتبناها بعض أطراف الذات العربية المجروحة. فثمة تنافر بل تناقض أحيانًا بين عناصر تلك الخلطة. فالبعد العربي يبدو متناقضًا مع البعد الإسلامي، في صيغته وصبغته الإيرانية أو الفارسية على الأقل. وكذلك هو حال العلاقة بين الأبعاد اليسارية والليبرالية والدينية. وليس واضحًا كيف أمكن لحزب موالٍ لإيران لدرجة إمكانية القول إنّه إيراني بقدر كونه لبنانيًّا/ عربيًّا، وربّما أكثر، أن يحظى بدعم أو مساندة قوى وأطراف عروبية وليبرالية ويسارية، عربيةٍ وأجنبيةٍ. ويبدو أنّ العداوة لعدوٍّ واحدٍ أو مشتركٍ هو الصمغ الجامع بين القوى المذكورة. لكن التباين بين هذه الأطراف يجعلها أضعف من أن تشكل وحدةً فاعلةً، في المجال السياسي أو الثقافي، فضلًا عن المجال العسكري. وبالتأكيد، ليس البعد الوطني السياسي الخاص، ولا الإنساني الأخلاقي العام، هو الجامع بين الأطراف المذكورة، بل يمكن القول إنّ التحالف الهشّ والصوري بين الأطراف المذكورة، يحصل على حساب البعدين الوطني والإنساني، ويتأسّس بالتضاد أو التناقض معهما. ﻓ "السكاكين تملأ مطابخ مدن الأطراف المذكورة". وللحصول على حق تقرير المصير، تحتاج الذوات العربية المجروحة إلى التحرّر من (معظم) القوى التي تزعم، بحقٍّ أو من دونه، أنّها تسعى لتحريرها.
تكمن المعضلة التي تواجهها الذوات العربية المجروحة أنّها، من ناحيةٍ أولى، لا تملك رفاهية تأجيل التحرّر من القوى المحلية (الصديقة) التي تحكمها أو تتحكّم بها. في المقابل، تبدو تلك الذوات أضعف من أن تستطيع خوض المعركة المزدوجة مع طرفي العدوان/ الاحتلال الخارجي والاستبداد أو الطغيان المحلي، في الوقت نفسه. ولهذا يبدو أنّ مصير تلك الذوات متعلّق، جزئيًّا، على الأقل، بقدر أحمق الخطى، ليس نادرًا أن تسحق تلك الخطى هاماتٍ الذات العربية المجروحة. لكن البعد القدري لا يلغي أنّ المسألة تتعلّق بمصيرٍ تقرّره تلك الذوات أو تسهم في تشكيلة، لدرجةٍ أو لأخرى. ويمكن للدمار الحاصل أن يؤسّس لبناء مستقبليٍّ ما. فالتغيير صديق مبدئيٌّ للذوات المجروحة والمقموعة، خصوصًا عندما تكون أوضاعها قد بلغت أسوأ درجاتها. ويبقى الأمل قائمًا، على الرغم من أنه يتأسّس على المجهول الذي لا نعرفه والخارج عن قدرة الفاعلين السياسيين على السيطرة والتحكّم به، وليس على المعلوم أو المعروف بوضوحٍ. ومع ذلك، ينبغي لنا الاستعداد للتعامل مع المستجدات التي يتضمنها ذلك المجهول، والعمل على الإسهام في صياغة المعلوم الذي سيتحول إليه ذلك المجهول.