العرب والحب المستتر
عزيز أشيبان
ربما لن نختلف مع القرّاء الأعزاء، إذا اعتبرنا الحب روح القيم الإنسانية والروابط الودية والنواة الصلبة لمقاصد الرسالة السماوية. يُقبل الإنسان على العبادة ويحوّل تعاليمها إلى نمط عيش، حبّا في الخالق، واعترافاً بفضائله ونعمه، فتكتسب العبادة السمو والرقي وتترفع عن الصغائر والدنايا من الأمور.
على المنوال ذاته، يبرّ الإنسان بوالديه ويحسن إليهما ويسعى، ما دام حيّا، إلى تقديم الأفضل، رغم أنّ حبّهما فطري ولا يقارن بحبّ الآخرين. يأتي بعد ذلك الأقارب، حيث قوة الوشائج العائلية وقرابة الدم والنسب والانتماء العائلي. أيضاً، نقبل على نسج علاقات ودية مع الآخرين، بحثاً عن التعايش الإنساني والتآزر، هروباً من شبح العزلة والانزواء والاحتياج، إذ إنّ وجود الحبّ محدّد بمعادلة العطاء والأخذ، والتفاعل الدائم مع الناس، ويبقى أفضل رابطة من أجل استدامة متانة الروابط، سواء أكانت صداقة خالصة أوم علاقات ودّ مع الجميع. في حضور فضيلة الحب، يؤلف بين القلوب وتذوب الخلافات وتحوّل العداوة إلى مودة، تُجهز على الغلّ والكره والبغض وتُرجّح كفة الخير والعطاء. أينما حلّ الحب حلّ السلم والأمان والعطاء والبذل والأمل.
في المنطقة العربية، ندّعي أو نؤمن بأننا قوم وجدان وعواطف، ونشكو من تملّك مشاعرنا لناصية أفعالنا وتغيّر سلوكنا. لا نتردّد في ربط استمرار تماسكنا العائلي بأسباب وجدانية صرفة، ونفتخر بذلك، ونظنّه سبب تميّزنا عن بقية الأقوام. لكن، في المقابل، نعاني أزمة حب داخل مجتمعاتنا، وكلّ فرد منا يعيش حرارة تعطش مريب لمشاعر الحب، يتجسّد في افتقاد غريب لمشاعر الودّ التي لا تحظى بالتعبير والتوظيف الرشيد، وتكاد تنعدم من تواصلنا اللفظي. نفتقد الحب العقلاني الملموس، إذ لا نعبر عنه ولا نعرف حتى كيف نفعل ذلك.
من خلال محاولتنا هذه، نسعى إلى الخوض في بعض جذور هذا التناقض الغريب ونحصرها في أربعة مفاصل: الجغرافية، الموروث الثقافي، المقاربة المفاهيمية، وسطوة السياسة على الجميع.
نفتقد الحب العقلاني الملموس، إذ لا نعبّر عنه ولا نعرف حتى كيف نفعل ذلك
بخصوص العامل الجغرافي، ثمّة سؤال يستوجب التدبّر والتأمل: هل حقاً أثرت قساوة جغرافية المنطقة العربية في منتوجها البشري، وجعلته جافاً صلباً، يميل إلى القسوة والانغلاق ورفض التعدّد والتنوّع والانفتاح؟
بعبارة أخرى: هل ينبعث الجفاف العاطفي من جفاف الجو الصحراوي القاسي؟
ارتباطاً بموروثنا الثقافي، تتعدّد القيود التي كبّلت معاني الحب أو انحرفت به عن ماهيته ومقاصده. نتحدث أساساً عن بعض التصوّرات السائدة عن مفهوم الحب، والتي تتعامل معه بنوع من الارتياب، وتراه تهديداً لقيم الحشمة والوقار أو دليلاً على الضعف وغياب جسارة الشخصية عند الرجل في مجتمع ذكوري صرف، من الطبيعي إذن أن يحظى هذا الشعور النبيل بالحذر والحيطة إلى حدّ اللعنة والاستبراء داخل مجتمع عربي يئن تحت سطوة العقلية القبلية وقيم البسالة والإقدام والريادة الحربية.
في الرأسمال الثقافي العربي، نميل إلى القول إن الحب ظلّ حبيس الفطرة والغريزة، مفتقراً للعقلانية والتوظيف الرشيد. نعاينه أحياناً في ردود أفعال آنية وتدفق مشاعر جياشة قد تأتي على الأخضر واليابس، غير أنّه سرعان ما يعود إلى وضعه الاعتيادي الجامد، ويظلّ حبيس الصدور والوجدان. نراه من المسلمات المكتسبة التي لا تندثر ولا تتوارى، ولا نحوّله أبداً إلى مسار أفعال ومواقف تحتاج العقلنة حتى لا ينحصر في أغلال الغرائز، تتقاذفه رياح الأهواء والنزوات. في غياب الاجتهاد إذن، يتحوّل الحب إلى وهم يفقد قوته ووظيفته الإنسانية.
في غياب الحب تفقد الكلمات الجميلة رونقها وعبقها المتفرّد، وتبدو الوجوه قاسية صماء مريبة
من وجهة نظر سياسية، وفي جلّ أرجاء المنطقة العربية، تسطو السياسة وتسود وتأتي على الأخضر واليابس، ويُنتظر منها إيجاد الحلول لجميع المشاكل والأزمات، فتغدو بذلك سبباً مفصلياً في هندسة وصناعة المآسي. حقيقة، جرّدت بعض أنظمة الحكم البالية في المنطقة العربية الناس من حقوقهم المادية والمعنوية وسلبتهم حتى حق الحلم، وتفانت في تنشيط نعرات الأنانية والفردانية والفهلوة، مقابل طمر بذرات قيم المودة والمحبة حتى يسود الحاكم ويستديم شرعية نظامه الذي يفتقد الودّ والتواصل الطبيعي مع الناس.
للحب حسنات لا تحصى ولا تعدّ، لكنه يحتاج إلى مسار بناء متواصل وعناية تستنفد من الجهد والطاقة ما يستحق هذا الشعور النبيل. قد يكون المُحبّ زوجاً أو صديقاً أو خليلاً أو فاعل خير، حيث تجد الروح سكينتها ومأواها ورواء ارتقائها وعروجها نحو الفضائل. إنه من يُقبل ولا يُدبر، رافعاً بذلك حرج السؤال، مستجيباً لك. لكن، في غياب الحب، تفقد الكلمات الجميلة رونقها وعبقها المتفرّد، وتبدو الوجوه قاسية صماء مريبة، وتكتنف المشاعر المرارة وتسلب الحياة طعم الاستمرار.