الطريق إلى يناير... مقدمات ما قبل الشهادة

10 فبراير 2021
+ الخط -

لم يأتِ "ائتلاف شباب الثورة" من فراغ، ولا كان وليد أيام التحرير ولا دعوات التظاهر قبيلها، بل يمكنني القول إني شاهد على أن جذوره تعود لأكثر من 15 سنة قبل 2011، من جهود ومحاولات للتواصل والتنسيق والعمل المشترك، حين بادر طالبان من الإخوان المسلمين بجامعة القاهرة ببدء أول تنسيق بين طلاب الجماعة وطلاب الحركات والأحزاب السياسية في الجامعة، وأثمر ذلك الإعلانَ عن تشكيل أول مكتب للتنسيق السياسي بالجامعة 1997، شارك فيه طلاب الإخوان وطلاب حزب العمل والوفد والاشتراكيون الثوريون والناصريون، ومن الأسماء التي شكلت هذا المكتب التنسيقي محمد القصاص وإسلام لطفي وزياد العليمي وخالد عبد الحميد، وليس مستغرباً أن نجد أن هذه الأسماء قد شاركت لاحقاً في التنسيق لإنجاح دعوات 25 يناير ثم 28 يناير ثم أسهمت في تأسيس ائتلاف شباب الثورة!

وكان هذا الأمر غريباً على طلاب الإخوان وأنا واحد منهم. فقد كانت الثقافة التقليدية والسائدة داخل الأطر التربوية للإخوان تتبنى في الغالب خطاباً سلبياً تجاه التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، ونحن لا نحتك بهم أو نراهم عملياً، لذا كان الغالب أن ننظر لمن نلقاه منهم نظرة ارتياب.. لكن هذا اليوم كان نقطة تحول بالنسبة لي، فقد تعرفت حينها أننا لسنا وحدنا من نحب هذا البلد، وإن كان لكل طريقته في ذلك!

ولا أنسى مظاهرة كنت مسؤولاً عنها عام 1998 وحين وصلنا أمام قبة الجامعة لنعقد المؤتمر الإعلامي للمظاهرة، أخبرني القصاص أنه ستكون هناك كلمة لأحد الطلاب اليساريين اسمه زياد العليمي، وكنت أتعجب أن نسمح بمشاركتهم من الأساس! وظللت أشترط على القصاص أنه يجب أن تكون كلمته قصيرة وألا يشتم أو يتلفظ بألفاظ غير مقبولة وإلا سأنهي الكلمة فوراً، والقصاص يهدئني!

بعد التخرج من الجامعة استمرّ أغلبنا كمشرفين على العمل الطلابي، وكذلك استمر بعض الأصدقاء من الحركات السياسية الأخرى في متابعة العمل الطلابي في حركاتهم، وساعد ذلك على استمرار التواصل والتنسيق في محطات مهمة، التي أثمرت الاتحاد الحر ثم اللجنة التنسيقية بين طلاب مصر التي كان ممثل طلاب الإخوان فيها الصديق شريف أيمن، وهناك محطة من أهم محطات التنسيق والعمل المشترك بين القوى السياسية وفي القلب منها الطلاب والشباب، من خلال "مؤتمر القاهرة الدولي"، وكنت قد اقترحت على القصاص أن يكتب مقالاً يوثق فيه خبرة مؤتمر القاهرة لأهميته ونشر عام 2015 في "ملحق جيل" الصادر عن صحيفة العربي الجديد، ومن المفيد الاطلاع عليه مفصلاً.

وبصفة عامة، كان الغالب على العقد الأخير من حكم مبارك وجود حالة عامة من الرغبة في التواصل والتنسيق والعمل المشترك وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة لمواجهة التحديات التي فرضها النظام، بدا ذلك في خط ممتد من المحطات، منها مؤتمر القاهرة منذ 2002 وحركة كفاية 2004 والجبهة الوطنية للتغيير برئاسة د. عزيز صدقي منذ 2005 ومظاهرات 6 إبريل التي شارك فيها طلاب الإخوان منذ 2008 والجمعية الوطنية للتغيير 2010، ثم مظاهرات خالد سعيد وكنيسة القديسين وسيد بلال.

تقدم الزملاء في قسم الطلاب بملحق إجرائي يتضمن خطة للتصعيد وتبني مسار التغيير وليس الإصلاح، وإعلان الجماعة بوضوح موقفها من النظام وإسقاط شرعيته وأنه غير جاد في الإصلاح

 

وهذه المحطات في مجموعها، حتى في ظل الأسقف المنخفضة للقوى السياسية أحياناً ورغم إخفاقاتها أحياناً، كانت عوامل مهمة في تشكيل حالة مختلفة للمعارضة وبلورتها، وأخص بالذكر هنا قطاع الشباب داخل هذه القوى، بل تفاعل وانخراط قطاع واسع من الشباب عموماً في المجال العام بصورة ساعدت في وصولنا لإنجاز "يناير"، وتشكل نواة صلبة من مجموعات شبابية سياسية ذات خلفيات متنوعة، استطاعت تلقف فكرة الدعوة للتظاهر في عيد الشرطة ضد قمع الأجهزة الأمنية لمبارك والتي تطورت لتصبح دعوة للثورة ضد نظام مبارك كله.

(1)

في لقاء مع أحد أعضاء مجلس شورى الإخوان على خلفية قرار مكتب الإرشاد بالمشاركة في انتخابات مجلس الشعب 2010 كان خلاصة رده على الاعتراضات والمخاوف التي أبديتها: مشكلتكم انكم فاكرين إن الانتخابات دي ياما هنا وياما هناك، في الآخر يا هاني دي انتخابات زيها زي غيرها، لا لها علاقة بالتوريث ولا لها أي تأثير خاص. فقلت له: مع احترامي لك يا دكتور، إذا كان هذا الكلام هو تقدير الجماعة الحقيقي للوضع السياسي في البلد الآن، فيمكنني القول إن حسني مبارك وعصابته لا يحتاج أي شيء ليدوس بجزمته على البلد ومن فيها، إلا وجود كيان بحجم الإخوان المسلمين يفكر بهذه العقلية.

كنت حينها، مثل عدد كبير من قواعد الجماعة يرون خطأ هذا القرار، وتأثيراته الخطيرة على الوضع السياسي في البلد في ظل مقاطعة القوى السياسية، خاصة شركاءنا في الجمعية الوطنية للتغيير، التي كنا نجمع توقيعات على بيانها حتى وقت قريب! وأن المشاركة ستعطي مشروعية للانتخابات التي يعرف الجميع أنها سيتم تزوريها بشكل واسع لأنهم يريدون البرلمان القادم متسقاً ليقوم بدوره في تمرير ملف التوريث في حال حسمت زمرة مبارك القرار بإنفاذه في وقت قريب..

لكن إضافة لذلك، فقد كان هذا الكلام صدمة مركبة بالنسبة لي كوني أسمعه من أحد رموز الإصلاحيين في الجماعة!

"في المشمش".. عنوان المرحلة

كان الزملاء في اللجنة السياسية والإعلامية بقسم الطلاب في الإخوان (محمد القصاص وأحمد عبد الجواد وإسلام لطفي ومحمد عفان وآخرون سأحتفظ بأسمائهم..)، قد تقدموا لمكتب الإرشاد في وقت مبكر -كان ذلك في شهر يونيو/ حزيران 2010 تقريباً، قبل تأكد نية النظام في التزوير وإعلان إجراءاته التي أدت لمقاطعة القوى السياسية للانتخابات - بمقترح تفصيلي للتعامل مع ملف الانتخابات، وتضمن هذا المقترح رؤية لجعل الانتخابات محطة مفصلية في الصراع مع نظام مبارك، وبناء كتلة معارضة قوية تعزز من الجهود التي بذلت في بيان التغيير وتبني على مشاركة الجماعة في الجمعية الوطنية للتغيير، وكذلك تكون أداة لتضييق الخناق على النظام في حال لجأ لتزوير فج واتخاذ إجراءات محلية ودولية لفضحه وتقويض سلطته.

في المشمش 2

لكن مكتب الإرشاد رفض الاقتراح، وشاركت الجماعة وحزب الوفد في الانتخابات خلافا لموقف القوى السياسية التي تحالف معها في الأمس القريب جدا في "بيان التغيير"، ثم كان التزوير الخشن الذي اضطر الجماعة لإعلان الانسحاب من الجولة الثانية.

لم يقف إحباط "في المشمش" على ملف الانتخابات وحدها، بل كانت عنوانا جديرا بالعديد من علامات الاستفهام الكبيرة والقرارات غير المفهومة أو المبررة..

 

فتقدم الزملاء في قسم الطلاب بملحق إجرائي يتضمن خطة للتصعيد وتبني مسار التغيير وليس الإصلاح، وإعلان الجماعة بوضوح موقفها من النظام وإسقاط شرعيته وأنه غير جاد في الإصلاح، والضغط لتعديل الدستور وإعادة الإشراف القضائي والرقابة الدولية كضمانات لانتخابات رئاسية نزيهة في 2011، والحوار مع القوى الوطنية والأحزاب من أجل التنسيق للبديل المناسب والمطمئن للغرب.

وأن تبدأ إجراءات التصعيد بالاحتشاد يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2010، آخر يوم في العملية الانتخابية، في الأماكن الحيوية مثل (مقرات المحافظات - مجمعات المصالح - المجالس الشعبية والمحلية)، ثم التنسيق مع رموز القوى الوطنية لفعاليات مركزية أمام مجلس الشعب يوم 13 ديسمبر 2010 لإسقاط البرلمان المزور.

ملحق الانساحب - في المشمش

لكن مكتب الإرشاد رفضه ووجه اللوم للمجموعة التي أنتجته أيضًا!

كان هذا المقترح بمثابة رؤية ثورية بمنظور العمل السياسي التقليدي للجماعة حينها وجديرة بالاطلاع عليها وقراءتها بعين تلك المرحلة! لذلك حين سأل أحد أعضاء مكتب الإرشاد بعد رفض الاقتراح: لماذا سميتم الملف "في المشمش"؟ رد عليه إسلام لطفي: لأننا كنا متأكدين أن المكتب لن يقبله.

ومع الأسف فلم يقف إحباط "في المشمش" على ملف الانتخابات وحدها، بل كانت عنواناً جديراً بالعديد من علامات الاستفهام الكبيرة والقرارات غير المفهومة أو المبررة.. منها على سبيل المثال:

- أزمة البرنامج السياسي للجماعة 2007، ولم تكن نقاط الأزمة فيه (ترشح المرأة والأقباط للرئاسة وهيئة كبار العلماء التي تعرض عليها التشريعات) موجودة في النسخة الأصلية للبرنامج الذي كتبته لجنة بالقسم السياسي للجماعة، وحين عرض البرنامج على مكتب الإرشاد تمت هذه الإضافات في ظل اعتراضات كثيرة، وقد خضنا عدداً من النقاشات حينها أملاً في عدم صدور البرنامج بهذه الصيغة، وزرت د. أحمد العسال رحمه الله حينها وأخبرني أنه وعدد من الشخصيات المعتبرة "منهم د. محمد عمارة والمستشار طارق البشري ود. سيد دسوقي وآخرون" اجتمعوا بالمرشد العام الأستاذ مهدي عاكف ونصحوا بعدم إضافة هذين البندين موضحين الأبعاد الشرعية والسياسية المرتبطة بذلك، لكن د. مرسي والشيخ محمد عبد الله الخطيب دافعا عن إضافتها، وتم تمريرها بالفعل للإعلام وتسببت بأزمة داخل وخارج الجماعة! وقام الزملاء في اللجنة الإعلامية والسياسية بقسم الطلاب حينها بتنظيم نحو 20 ورشة عمل لمراجعة البرنامج وتقديم ملاحظات عليه، وخلصت هذه اللقاءات إلى صياغة ورقة سياسية كاملة، وتم كذلك تجاهل نتائجها. 

- تعامل الجماعة مع "الحرب الإسرائيلية على غزة" في 2008 وخطة التصعيد التي كان "قطاع القاهرة الكبرى" مسؤولاً عنها، والذي افتقد كل معاني الإدارة والتنظيم، لدرجة أننا في أغلب المظاهرات كنا نتجمع دون تعليمات واضحة أو مسؤول محدد، ثم تبدأ مطاردات الأمن لنا واعتقال عدد من بيننا، وتواصلت أنا وأحمد نزيلي مع قيادات بالجماعة، ثم تقدمت بطلب رسمي لمجلس الشورى العام للتحقيق في الأمر، وختمت رسالتي حينها: " للأسف ما يحدث حاليا هو أننا نضحي بشبابنا بدون مقابل يذكر، لا لشيء إلا أن جهدا تنظيميا لم يبذل كان من شأنه أن يجعل دورنا أكثر فاعلية بخسائر أقل".

- أزمة الانتخابات التكميلية لمكتب الإرشاد وتصعيد د. عصام العريان لعضوية المكتب 2009، وذهبت حينها أنا وسامح البرقي وإسلام لطفي وأحمد عبد الجواد للقاء الأستاذ مهدي عاكف، وكان معه صديق له مستشار بمحكمة النقض طلب منه مراجعة اللائحة وكان تفسيره للائحة أن من حق د. عصام دخول المكتب.. لكن كان ثمة صدع حقيقي!

هذه المواقف وغيرها باتت تهزّ جدار "الثقة في القيادة" بالنسبة لي شخصياً وكان هذا أمر لو تعلمون عظيم، وأحسب أن هذا كان حال عدد غير قليل من شباب الجماعة، وأنه ليس كل ما يقوله "إخوانا الكبار" بالضرورة سليماً أو بالضرورة هو الأفضل، لذا حين جاءت يناير لم يكن عندي أزمة شخصية كبيرة في التحرك وفق ما تقتضيه الضرورة ثم محاولة التوضيح والإقناع لقيادة الجماعة لاحقاً.

(2)

مع تصاعد الدعوات لمظاهرات 25 يناير، تقدم الأصدقاء في اللجنة الإعلامية والسياسية بقسم الطلاب (أحمد عبد الجواد، إسلام لطفي، محمد القصاص).. باقتراح لدكتور محمود أبو زيد (مشرف قسم الطلاب حينها) يوصي بأن يعلن القسم بصورة خاصة عن مشاركة طلاب الإخوان في فعاليات 25 يناير مثلما شارك الطلاب في مظاهرات 6 إبريل، لكن رد د. محمود أن المكتب اتخذ قراراً واضحاً بعدم المشاركة وأن ذلك يسري على الجميع والقسم سيلتزم بالقرار العام، ولم يكن القرار قد أعلن بعد.

وفي الخميس 20 يناير صرح د. عصام العريان للإعلام بأن الجماعة قررت عدم المشاركة في مظاهرات 25 يناير وأعلنت مجموعة من المطالب السياسية، فاتصل به أحمد عبد الجواد، وأوضح له أهمية عدم رفض المشاركة بشكل واضح، وإمكانية الاكتفاء بترك مساحة من الحرية للأفراد في المشاركة، وتواصل بعض الزملاء من القسم بشخصيات في مكتب الإرشاد ومجلس الشورى العام في محاولة للضغط بهذا الاتجاه، واستمرت هذه المحاولات حتى يوم 23 يناير، حين اتصل د. عصام العريان بأحمد وقال له: انتزعنا لكم تصريح بالمشاركة، فاستأذنه أحمد أن يرتب مع "إخوان تيوب" لتصوير تصريح لإعلان هذا القرار.

وقد وجدت هذه النسخة من الفيديو على اليوتيوب:

 

وتفاوت موقف كل "شعبة" أو "منطقة" داخل التنظيم مع الأمر بحسب طبيعة المسؤولين التنظيميين فيها وفهمهم لمعنى التصريح، فبعض الوحدات داخل الجماعة قررت منع المشاركة، أو التشكيك في حقيقة موقف الجماعة، حتى إن مسؤول قسم التربية في منطقتي كان يجادلني بعد تصريح د. عصام بعدم منع الشباب، ويقول إن هذا تصريح للإعلام ولم يصلنا تكليف رسمي! وبعض المناطق اكتفت بالطلب ممن سيشارك في المظاهرات إخبار مسؤوله حتى يستطيع الاطمئنان عليه.

لكن خلاصة الأمر أن من شارك من أعضاء وشباب الإخوان في مظاهرات 25 يناير كان بقرار شخصي من كل واحد منهم، ويمكنني أن أزعم من خلال مشاهداتي المباشرة في أكثر من موضع أن عدد هؤلاء لم يكن قليلاً لكننا بالتأكيد كذلك لم نكن أغلبية بين المشاركين.

عرفت لاحقاً أنه في ذلك الوقت كان محمد عباس يحاول تجميع شباب الإخوان الراغبين في المشاركة في مظاهرات 25 يناير، بغض النظر عن موقف الجماعة منها، وتعززت جهوده بعد تصريح د. عصام، فاتصل عباس بأحمد عبد الجواد ومحمد القصاص وأخبرهم عن الشوط الذي قطعه هو ومعاذ عبد الكريم في التنسيق مع شباب الحركات السياسية من أجل تنسيق المظاهرات، وأنه تم الاتفاق على نقطة تجمع في شارع ناهيا، وأن هناك جروب على فيسبوك لتجميع المشاركين من شباب الإخوان اسمه (كلمة حق عند سلطان جائر).

سأسرد في شهادتي المقبلة: يوم 25 يناير من ناهيا إلى التحرير، الاجتماع على رأس كل ساعة في الميدان
مشروع البيان الأول.. من اقتحام البرلمان إلى الاعتصام في الميدان، اجتماعنا في مكتب الإرشاد يوم 25 يناير، لليوم الثاني على التوالي.. مظاهرات 26 و27 يناير، اجتماع الجمعية الوطنية للتغيير يوم 27 يناير وبيان جمعة الغضب، صدمة قرار مكتب الإرشاد بخصوص مظاهرات جمعة الغضب وكيف تعاملنا معه.