السودان ومآلات حرب الألف هدنة وهدنة!
تتواصل أحداث الصراع الدامي الذي يشهده السودان في هذه الآونة بين القوات المسلحة السودانية المنوط بها حفظ الأمن والبلاد، وبين مليشيا الدعم السريع، بعد اعتبار الأخيرة قوة متمردة وخارجة عن طوع الدولة. ولا شك في أنّ البلاد تمرّ بمرحلة تجديد وتنقيح، قد يتمخض عنها ميلاد سودانٍ جديد وعهد تخلو فيه البلاد من وجود هذه المليشيا التي استفحل خطرها وعظُم، أو (على أسوأ الظن) حدوث السيناريو الذي لا تحبّذه الأغلبية، وهو أن تنتهي الحرب بانتصار لهذه العصبة المارقة.
ومما لا شك فيه أنّ الخاسر الوحيد من تمديد هذه الحرب، بعد بلوغها شهراً منذ اندلاعها السبت 16 إبريل/ نيسان المنصرم، هو المواطن الذي يقع على عاتقه دفع جميع ضرائبها. فقد نتج عن هذه الحرب الشنعاء حتى الآن تدمير كامل لبعض الأسواق والمحال التجارية، تدمير القطاع الصحي والحيوي، تخريب المرافق العامة وهدم البنى التحتية، نهب الممتلكات الخاصة والعامة، وقتل وتشريد المواطنين. وللأمانة، فإنّ معظم أعمال التخريب والتدمير هذه كانت من قبل المليشيا المتمرّدة.
وعلاوة على ما سبق، قام أفراد هذه المليشيا باحتلال المستشفيات وطرد الكوادر الطبية منها، وبعض المرضى ذوي الحالات الحرجة. وتمّ استغلال هذه الأماكن أسوأ استغلال؛ بتخزين السلاح فيها وجعلها ثكنات عسكرية، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بنهب البنوك والمحال التجارية وترويع المواطنين ونشر الهلع بينهم.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ما زالت البلاد ترزح تحت طائلة الحرب والتدمير وآلة القتل والتشريد
وعلى الرغم من مقدار الجهود التي تبذلها القوى الإقليمية والدولية لاحتواء هذه الأزمة السياسية الحالية ومحاولة نزع فتيل الفتنة بين طرفي النزاع، إلا أنّ جميع هذه المحاولات لم تجد نفعاً، وما زالت البلاد تحت طائلة الحرب والتدمير وآلة القتل والتشريد. وما زالت المفاوضات، هي الأخرى بدورها، تجرى على قدم وساق لاحتواء هذا الوضع حتى لا يتفاقم أكثر من ذلك، على أمل الخروج بالبلاد من هذا النفق المظلم والوصول، بما تبقى من أنقاضها، إلى برّ الأمان.
ما يميّز هذه الحرب التي تفجرت بين القوات المسلحة والمليشيا المتمردة ليس قيامها على رؤوس المدنيين العُزّل وحسب بل كثرة الهُدن، فقد ضربت هذه الحرب منذ اندلاعها وحتى الآن، رقماً قياسياً في عدد الهُدن التي عُقدت بهدف وقف إطلاق النار وفتح مسارات آمنة للحالات الإنسانية.
هذه الهُدن، وإن كان يُرجى منها نفع للمواطن المكلوم، ولو بالشيء اليسير، إلا أنّ كثرتها تعني أنّ هذه الحرب هزيلة ولا طاقة للطرفين على إنهائها بشكل عاجل، كما تشير إلى تمسّك كلا الطرفين بموقفه حتى الآن، فضلاً عن حشد الهتافات لاستنفار الرأي الخارجي وكسب دعمه؛ فذلك يعني أنّ حرباً كهذه من الصعب أن تنتهي باتفاقية أو تفاوض، وأنّ استمرارها سيكون حتمياً على الأرجح، الأمر الذي ينبِّئ بكارثة حقيقية بحق المواطن ونتائج وخيمة ستطاول البلاد في مقبل الأيام.
الخلاص يكمن، فقط، في استئصال ورم هذه المليشيا المتمرّدة وتخليص البلاد منها ومن شرّها
الغريب أنّ جميع هذه الهُدن لا تلبث أن تُعقد، حتى يتم خرقها، فما إن يهدأ الفريقان لساعات، حتى تعول وتُستأنف الحرب. وهو ما يؤكد أنّ هذه الهُدن، وإن كانت في ظاهرها شيء إنساني، إلا أنّ في أصلها عجز صريح لكلا الطرفين عن خوض أيّ حرب في الوقت الراهن.
وإن كنت أرى، من وجهة نظر شخصية، أنّ انتصار قواتنا المسلحة سيجنب البلاد مغبّة الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه ويجعلها بمأمن عن هذه الفتن مستقبلاً، إلا أنّ هذه الحرب (بطبيعة الحال) ستجرُّ حرباً أخرى؛ إن توّصل الطرفان إلى تسوية تقضي باستمرار هذه المليشيا على رأس الدولة ومنْحها شرعية الوجود مرّة ثانية. ولهذا، فالخلاص يكمن، فقط، في استئصال ورم هذه المليشيا المتمرّدة وتخليص البلاد منها ومن شرّها، فما من سبيل لتنعم البلاد بالأمن والاستقرار، وهذه العصبة منتشرة في أرجائها!
ولكن لا أحد يستطيع التكهن بانجلاء هذه الغمة وإنهاء هذه الحرب العبثية، بوصف أحد جنرالات الحرب نفسها، في وقت قصير. واستمرار الحرب لا يعني إلا مزيد من المعاناة التي سيرزح تحتها المواطن السوداني. وإن كنت أتمنى أن يتم تكذيب جميع هذه التكهنات بنصر عاجل للقوات المسلحة أو على الأقل الوصول إلى اتفاقية بأقل الخسائر لوقف هذه الحرب والخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.