غزة... صمت وصمود!
لا أذكر عدد المرّات التي صرّحتُ فيها من قبل عن مدى صعوبة تعبير المرء عن شعوره ونقل مكنونات قلبه للعلن، وعن عجز الكلمة، في كثيرٍ من الأحيان، عن إيصال المعنى وترجمة الشعور الفعلي للفرد!
لم أعد أحصي عدد المرّات التي اختبرت فيها هذا الشعور، وكم مرّة لجأت للصمت مرغماً، يحول بيني وبين إصابة المعنى فقر اللغة. ففي أحيانٍ كثيرة يلوذ الإنسان بالصمت لعجز اللسان عن الوصف. والصمت هنا صمت حيرة وتيه، لا صمت تواطؤ وعمالة وجُبْن.
وهذا النوع من الصمت هو الذي ظلّ يُحجّمني طيلة الأيام السابقة عن خطّ ولو سطر يتيم في ما يخصّ شأن غزة، وما يطرأ على مواطنيها حتى الآن، فوالله لا الوصف يكفي ولا الكلام ذو جدوى، ولا النفس بوسعها تحمّل كلّ هذا.
ثم يتعاظم صمتي بتعاظم صمت العمالة الذي نشهده من الزعماء العرب وعجزهم عن خطو خطوة واحدة تأتي بنتائج مرجوة، ويتعاظم صمتي أكثر بتعاظم صمود المقاومة الفلسطينية ووقوفها وحيدة في الدفاع عن المسجد الأقصى مسطّرة فصلا جديدا من الشجاعة، ونوعا مختلفا من الصمود.
وللمفارقة، فإنّ صمود المقاومة في فلسطين المحتلة يُقابَل على الدوام بصمت رهيب، وفي كلّ مرة تتعالى فيها موجات بسالتهم ودفاعهم المستميت عن فلسطين؛ تزداد أفواه ولاتنا وحكّامنا المكمّمة برباط الجُبْن، وبدوره يزداد صمتنا ونغرق في حيرتنا أكثر فأكثر.
بينما تستمر الحرب على غزة وتتوالى الأحداث، لا يزال الصمت يخيّم على سمائنا
ثم لا يزال في المشهد صمت من نوع آخر، وهو صمت المجتمع الدولي متمثلاً بالأمم المتحدة ومنظماتها، على رأسها مجلس الأمن. صمت يكشف مدى نفاقهم وقبح سريرتهم، صمت يتناقض مع جميع القوانين والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان ومبادئ الحرية، والكثير من السرديات التي لطالما صدعوا بها رؤوسنا على مدى سنوات طوال.
فبينما نراهم يهرعون في كيل الخطابات المناهضة للظلم وسنّ القوانين الرادعة حيال كلّ قضية مهما صغر حجمها؛ نراهم الآن يصمتون صمت القبور تجاه جرائم الكيان الصهيوني التي لا تُحصى ولا تُعد، بل ويجدون لها التبرير المناسب، حسب منظورهم المعطوب، ثم يدعمونها على مرأى ومسمع الجميع!
وبلغ الصمت مداه، حينما رأينا ردود فعلٍ مُشرّفة من بعض الدول الأجنبية إزاء هذه الأزمة التي ضربت بثقلها على أرض فلسطين، إذ قامت كولومبيا بطرد السفير الصهيوني من أراضيها مع بداية الأحداث، ومؤخراً أعلنت بوليفيا قطع علاقتها مع الكيان المحتل، وما زالت دولنا لم تحرّك ساكناً.
صمتنا يتواصل لرؤيتنا الشارع العربي يبتهل بتدخل الجماعات والفصائل المسلحة في اليمن وسورية ولبنان والعراق على الرغم من شحّ إمكانياتها ومن كون بعضها جماعات إرهابية لها ماض طويل مع التشريد والتهميش والإقصاء وعدم الاستقرار؛ إلا أنّها لاحت كبارقة أمل يتيمة وسط ظلام اليأس الذي غطى جميع الأرجاء، واستحقت بذلك نيل "شرف مؤازرة" المقاومة. في حين أنّ هنالك إدارات قومية ذات شرعية وقانون لم تتولَّ زمام المبادرة بعد، وجيوشا عربية مكتملة العدة والعتاد ما زالت تأخذ وضعية المتفرج حتى الآن!
وتستمر الحرب وتتوالى الأحداث، ولا يزال يخيّم على سمائنا الصمت.